الرئيسية
السيرة الذاتية
مقالات
مؤلفات
البوم الصور
رسائلكم
رثاء
اتصل بنا |
|||
اهلا بكم
أحدث التعليقات بحث في الموقع |
تعيينات حملة الشهادات العليا في مؤسسات التعليم العالي ما حققته في الحاضر وما ستحققه في المستقبل
منذ ان نشرت مقالتي السابقة بعنوان (تعيينات حملة الشهادات العليا في مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي, اسبابها , اهدافها , نتائجها) الى الان والمقالات والمقابلات تتوالى بشأنها والاحاديث عن تلك الحملة تتواصل وتتفاوت وجهات النظر اليها فمنهم المادح ومنهم القادح وان كان اغلب ما ورد عنها ايجابيًا, لاسيما مقالة الدكتور احمد العبيدي. ومع ذلك فان ما نشر عنها في الصحف وما قيل عنها في المقابلات التلفازية لا يخلو من النقد والملاحظات. وهذه ظاهرة ايجابية وهي ربما تمثل صورة من صور السلوك الديمقراطي الذي نطمح الى ان يمارسه مجتمعنا ممثلاً في مراحله الاولى عند النخب الثقافية فيه, ثم ان يثير نشاط معين لوزارة من وزاراتنا كل ذلك الاهتمام والمتابعة لهو دليل قاطع على اهمية هذه الخطوة المباركة التي قامت بها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي. وتنبغي الاشارة هنا الى ان معظم الذين ساهموا في تلك النقاشات لم يكونوا على صلة ومسؤولية مباشرتين عن هذا النشاط سواء من كان في ديوان الوزارة وهي الجهة الرئيسة التي حققت هذا النشاط ام في الجامعات والكليات التي كانت المحطة الاخيرة لنتائجه, لذا فان معظم تقويمهم لهذه العملية لم يكن علميًا رصينًا, بل هو عرض لوجهة نظر قائمة على اطلاع بسيط او هامشي على ما اعتقد. ارى لزاماً عليّ ان اذكر ما سببه هذا الاجراء الرائع الذي قامت به الوزارة , الذي ابتدأ في الشهر العاشر من سنة 2005 وما زال جارياً من غير توقف او انقطاع , الا وهو الفرحة والامل اللذان غمرا قلوب الالاف من حملة الشهادات العليا من الدكتوراه والماجستير والدبلوم العالي, وكذلك الاوائل من حملة الشهادات الجامعية الاولية, هؤلاء الذين كانوا قد فقدوا الامل بان يجنوا ثمرة جهودهم المضنية في طلب العلم والمعرفة عندما حازوا على شهاداتهم من خارج القطر او من جامعاتنا العراقية, فكانت فرحتهم وهم يرون اوامر تعييناتهم بالرتب العلمية التي يستحقونها لا توصف, لاسيما بعد ان ملّوا من كثرة المراجعات والاستفسار عن شاغر في هذه الكلية او تلك, ولا احد يعلم اين الدرجات الوظيفية واين التخصيصات المالية. كانت الفرحة في عيون وقلوب الشباب من حملة هذه الشهادات لا توصف , ولهم كل الحق في ذلك فبعد هذا الجهد والمثابرة والصبر الطويل لم يجدوا من يعير لهم اهتماماً او يفرد لهم بالاً من جامعات وهيئات وكليات ومعاهد , وهم الذين منحوا هؤلاء الشباب شهاداتهم بتقديرات الامتياز والجيد جداً, ولكن عندما يحين السؤال عن التعيين لاجل المساهمة في خدمة هذا البلد تأتي الاجابة مسرعة بانه لا حاجة لاختصاصاتكم. عجيب امرنا, شهادات عليا وتخصصات مهمة, ومستويات علمية مرموقة, ولا حاجة اليها ولا درجة وظيفية متوافرة ولا تخصيص مالي موجود. لقد انجلى ذلك الليل الطويل عن هؤلاء الشباب المتوثب للعمل والاستمرار في الاستزادة من العلم. لقد كنت استشعر بهذا الفرح الغامر الذي يطفو على افئدة الشباب فيظهر بريقه على اعينهم, لذا فان هذه المدة من خدمتي في هذه الوزارة اعدّها من اسعد سنوات حياتي الوظيفية فعلى الرغم من ان العمل فيها كان شاقـاً مضنياً, كان في الوقت نفسه مزهرًا ومثمرًا معًا عندما وظـّفت هذه الطاقات الشابة في ميادين الحياة الجامعية التي كانوا يطمحون الى دخولها والعمل فيها لخدمة الاجيال التي تليهم. اما الجانب المادي فهذا امر لا يمكن اغفاله فهو وإن كان يأتي في المرتبة الثانية من الاهمية لانه يمثل وسيلة لاغلبهم الا انه جانب مهم في تيسير شؤون الحياة. ولكي يكون القارىء على بينة مما حققته هذه الحملة من اهداف وايجابيات للتعليم الجامعي, اود ذكر ذلك في النقاط الاتية: اولاً / الافادة من حملة الشهادات العليا الذين انفقت عليهم الدولة مليارات الدنانير بهدف رفد التعليم العالي والقطاعات الاخرى بالباحثين والعلماء والعاملين, ولم يتحقق ذلك بسبب الاهمال وعدم التخطيط السليم من اجل استيعابهم وتوظيف طاقاتهم المثمرة. ثانياً / سد الشواغر في الملاكات العلمية التدريسية التي كانت تعاني حاجة ماسة اليهم, ولم يجر اسعافها بالمؤهلين لذلك, وبقيت الامور في الجامعات تسير بتخبط وعشوائية في هذا الجانب. ثالثـاً / انهاء اسلوب سد الملاكات الشاغرة بالمحاضرين ممن هم على الملاك او خارجه, لما لهذه الحالة من اثار سلبية تظهر في الجوانب الاتية : أ- الزام افراد الملاك العلمي الدائم بعدد كبير من المحاضرات مما يؤدي الى ارهاقهم وعدم توافر الوقت الكافي لاجراء البحوث والدراسات والاشراف على طلبة الدراسات العليا. ب- الاعتماد على محاضرين خارجيين قد يكونوا غير مؤهلين للتعليم الجامعي وغير متفرغين له وان كانوا من حملة الشهادات العليا. ج- الاعتماد على محاضرين ليسوا بالمستوى العلمي المطلوب لاداء مهمات التعليم الجامعي على وفق القواعد العلمية والجامعية . رابعاً / رفد الملاك العلمي بالافراد المؤهلين للالتحاق بالدراسات العليا والبعثات العلمية للحصول على شهادات الدكتوراه بالمستوى المناسب, وتغيير هيكلية ذلك الملاك بما يوافق عليه العرف الجامعي من اختصاصات وشهادات علمية مناسبة. وفضلاً عن كل ذلك فان من الاجدر الاشارة الى قضية في غاية الاهمية, وهي ان هذه الحملة قد حققت هدفـًا مهمًا وهو سد الحاجة الى اعضاء هيئات التدريس في مؤسسات التعليم العالي الناتجة عن ترك اعداد كبيرة منهم العمل في تلك المؤسسات للاسباب الاتية: 1- الاجازات السنوية من دون راتب. 2- الاحالة الى التقاعد بسبب بلوغ السن القانوني. 3- التنسيب الى جامعات اخرى خارج مؤسسات التعليم العالي . 4- التفرغ لاكمال دراسة الدكتوراه خارج القطر والبعثات البحثية التي تمتد من 6 – 12 شهراً. 5- القبول لدراسة الدكتوراه داخل القطر. 6- التفرغ العلمي داخل وخارج العراق. 7- اجازات المصاحبة الزوجية والامومة. هذا كله يعد صورة واضحة عما حققته التعيينات في الوقت الحاضر, اما ما ستحققه في المستقبل فاني استطيع ان اؤكد انه اعمق واجدى مما حققته في الوقت الحاضر, واوضح ذلك في النقاط الاتية: اولاً / توفير الملاكات العلمية اللازمة في الامدين القصير والبعيد لسير الانشطة العلمية والبحثية للجامعات القائمة, وسد الشواغر في ملاكاتها وتحقيق النسبة العلمية المقررة. ثانياً / توفير الملاكات العلمية اللازمة لجميع التوسعات العلمية المتوقعة مستقبلاً في الجامعات القائمة التي هي في حاجة الى تلك التوسعات في اختصاصات مختلفة. ثالثـاً / توفير الملاكات العلمية اللازمة للجامعات الجديدة التي سيتقرر فتحها لعشر سنوات قادمة في الاقل, آخذين بالحسبان حاجة القطر الى فتح جامعات عدة في مناطق مختلفة خلال هذه السنة. رابعاً / ان التعيينات الاخيرة هيأت الفرصة لقبول الاعداد المناسبة لدراسة الدكتوراه كذلك البعثات العلمية خارج القطر , مما سيوافر اعضاء هيئة تدريس من حملة الدكتوراه بعدد اكثر بكثير مما هو متوافر في الوقت الحاضر وهذا سيساعد على سد النقص الواضح في حملة شهادة الدكتوراه في الملاك التدريسي. خامساً / توافرت حملة التعيينات هذه على اعداد مناسبة جداً من حملة الدبلوم العالي والشهادات الجامعية الاولية من المتفوقين مما ساعد على سد الحاجة الى الكوادر الوسطية في مختلف الاختصاصات والتي كانت الحاجة اليها ماسة جدًا في السنوات السابقة. سادساً / ستساعد حملة التعيينات هذه في سد الحاجة للتدريسيين في الدراسات المسائية مما سيمهد لجعلها دراسة مجانية على وفق احكام الدستور.
أ.د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
تعيينات حملة الشهادات العليا في مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي (أسبابها، أهدافها، نتائجها)
كان ( اللانظام ) السابق يحاول دائماً تصحيح أخطائه من غير جدوى بعد فوات الاوان وكانت ندوة أصلاح التعليم العالي والبحث العلمي الثانية التي أقامتها الوزارة سنة 1992 من ضمن هذه المحاولات العقيمة التي لم تأت بخير وكانت تهدف الى أنقاذ الوضع العلمي في جامعات القطر وتجنب ما سيؤول اليه حاله بعدما أنهكته ظروف الحرب العراقية الايرانية التعليم العالي والبحث العلمي في البلاد . ومن غير أطالة في سرد ما احاط بتلك الندوة أو في تفاصيلها فأن من أبرز نتائجها أنتصار الرأي الذي كان يفضل الاعتماد على أمكانيات وقدرات الجامعات العراقية وأساتذتها وما يمكن توفيره من تخصيصات مالية ووسائل ومستلزمات تسهل التوسع في الدراسات العليا وتطويرها وسواء أكانت تلك النتائج للدعاية التي كان بأمكانيتها المتواضعة وتخصيصاتها المالية البائسة والمتناقصة باستمرار ومع نضوب مصادرها العلمية وأمتناع موفديها من العودة الى القطر ومغادرة ( أو هروب ) عدد كبير من أساتذتها على الرغم من كل هذه الظروف العسيرة بل المهلكة أستطاعت هذه الجامعات أن تخرج أعداداً كبيرة من طلبة الدراسات العليا من حملة شهادة الدكتوراه والماجستير ومن حملة شهادة الدبلوم العالي في بعض الاختصاصات والفضل كل الفضل في ذلك يعود الى أعضاء الهيئات التدريسية في جامعاتنا . أن ما تمخض عن هذه الندوة او النشاط العلمي الذي جرى في أصعب الظروف الاقتصادية والمالية والعلمية لم يجر سوى توظيف جزء يسير منه لخدمة الجامعات العراقية إذ لم توشك نتائج هذا التوسع في خدمة الدراسات العليا حتى صدر القرار الذي عدل فيه أحكام قانون الخدمة المدنية واصبح من اليسير على من يترك عمله لمدة عشرة أيام الحصول على جواز سفر ومغادرة القطر بعد براءة ذمته من أموال الدولة فساعد هذا القرار مع الظروف الاقتصادية والمالية والاجتماعية الصعبة التي أفرزها الحصار الاقتصادي على خروج أعداد كبيرة من الحاصلين على شهادات الدكتوراه للعمل خارج العراق وأمست جامعاتنا تعمل بنصف ( ان لم يكن اقل ) أعداد هيئات التدريس الواجبة حسب النسب العلمية المعتمدة او المتعارف عليها وأصبح حالها أشبه بمن يعمل بيد واحدة او يسير برجل واحدة أو يطير بأحد جناحيه ولا أرغب في الاطالة في سرد تلك الظروف لان التعليم العالي والبحث العلمي باساتذته وطلبته على علم بها وبنتائجها الوخيمة . هذا ما كان في العهد السابق المنهار فما الذي تغير في عهدنا الجديد ؟ أننا لو تأملنا قليلاً في ما آلت الحال في أول سنتين من العهد الجديد ( ما بعد سقوط اللانظام ) نرى أن أحوال التعليم العالي والبحث العلمي لم تكن بأحسن حال من تلك السنوات العجاف التي ألمت به وأن أبرز ما أعاق أنطلاق التعليم العالي والبحث العلمي في تقديري أمران أساسيان لا أهمية كبيرة لغيرهما هما :- اولاً / عدم توفير الموارد المالية اللازمة وعدم زيادة تخصيصات التعليم العالي والبحث العلمي الذي كان ولا يزال بأمس الحاجة إليها وهو ما ينبغي أن توفره موازنة الدولة السنوية وقد أبقى هذا الامر احتياجات المؤسسات العلمية قائمة ولا سبيل لحلها الا بما ينبغي أن تخصصه الدولة ولكنها شحت عليه بما يقتضي وما يجب فضلاً عن وجود ضعف في اجهزة تخطيط وتقدير أحتياجات مؤسسات التعليم العالي والتي استمرت في تخطيط أحتياجات الجامعات بتقليدية ورتابة واضحتين وهذا ما استطاعت وزارة التعليم العالي معالجته مؤخراً والاهتمام به بصورة موفقة ( بتقديري ) ستأتي ثماره في السنة القادمة أن شاء الله . ثانياً / النقص الكبير في اعداد الهيئات التدريسية الذي كان ينبغي معالجته لسد الحاجة وملئ الشواغر فيها وكان سببه عائداً الى عدم اهتمام وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في السنوات الاخيرة من عمر ذلك ( اللانظام ) باستقطاب الاعداد الكبيرة التي تخرجت وحصلت على الشهادات العليا في الاختصاصات المختلفة فبعد أن استثمرت جامعات القطر أعداداً قليلة من خريجيها تلقفتهم جامعات الاقطار الشقيقة المجاورة والبعيدة وباعداد كبيرة حتى سدت كل احتياجاتها منهم فتبقى منهم الكثير ممن يحدوهم الامل في تغيير أحوالهم نحو الافضل والحصول على المقاعد الشاغرة للتدريسيين في جامعاتنا الذي كان يعطى لحامل الشهادة الجامعية الاولية بمستوى ( متوسط ) او ( مقبول ) أحياناً في حين لا يجد حامل شهادة الدكتوراه او الماجستير المتفوق مقعداً له في هذه الجامعات العريقة منها او الحديثة، هذا ومما زاد الطين بلة أننا بعد أنهيار ذلك ( اللانظام ) اصيب خريجوا هذه الجامعات من حملة الشهادات العليا بأحباط كبير لم يكن يخطر على البال هو أن النظام الجديد لا يستطيع أن يوفر لهم الدرجة الوظيفية ولا تخصيصها المالي فتراكمت أعدادهم وبقيت الجامعات بشواغرها التدريسية تزج بالتدريسين وغيرهم بالمحاضرات ذات الاجور الزهيدة قليلة الفائدة والمتأخرة في الصرف . وظلت هذه الحال حتى قدر الله تعالى وفتح ما أستغلق من عقدها، تيسرت للآلاف من حملة الشهادات العليا الوظائف التدريسية في الجامعة او الكلية او المعهد المختص وان هذا النشاط المبارك او الانجاز الرائع الذي حققه وزارة التعليم العالي والبحث العلمي كان موافقاً لاهداف التعليم العالي والبحث العلمي وستكون ملاكاتها التدريسية متكاملة ونشاطها متوازن وسير التدريسات فيها متواصل واصحاب الكفاءات في هذا البلد يمارسون أختصاصاتهم معززين مكرمين وعلى افضل المستويات . أن ما ستحققه هذه الحملة او هذا النشاط يعد من افضل المنجزات التي حققت في مجال التعليم العالي والبحث العلمي منذ أنهيار ( اللانظام ) الى الآن أن ما ستحققه هو رقي المستوى العلمي للتدريسي ورقي ورصانة الخريج الجامعي ومع أعادة برنامج البعثات خارج العراق لنيل أرقى الشهادات فاني أرى إن التعليم العالي والبحث العلمي قد بدء يسير على الخط الصحيح وان اهتمت الحكومات المقبلة في توفير التخصيصات المالية لهذه المؤسسات و زيادة الانفاق على الدرجات الاولية والعليا والبحوث العلمية واستمرار برنامج البعثات العلمية خارج العراق دون توقف ولأي سبب كان فأن التعليم العالي في العراق سيستطيع تخطي ما احاط به من خور وضعف في سنوات العجاف ليصل لأرقى مستوى في أقصى فترة من الزمان .
أ.د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
الموصل حلوة وجنة
ما كدت أن أنتهي من كتابة خاطرتي قبل أكثر من عام وعلى الرغم من تأخر الوقت حتى الساعة الثانية بعد منتصف الليل، والتي كانت بعنوان ((أحيا وأموت على البصرة)) للمطرب الريفي الشهير المرحوم حضيري أبو عزيز حتى أعلن المذيع بأننا سنستمع الى أغنية ريفية للمطرب نفسه عنوانها ((الموصل حلوة وجنة)) توقفت حينها عن الكتابة وأخذت أصغي الى المذياع لأسمع تلك الأغنية التي اعجبتني كثيراً كلماتها والتي كانت صادقة حقاً في وصف تلك المدينة الجميلة. وإذا كان مؤلف هذه الاغنية المنسية ومطربها قد أبدعا في وصف المدينة، قررت اليوم أن اكتب عن ما اعتقده وأراه في أهل هذه المدينة الذين هم أحلى من مدينتهم الحلوة والجنة. ففي مدرستي الابتدائية في مدينة القاسم في لواء الحلة – كما كان يسمى – وفي أواخر الاربعينات وبداية الخمسينات التي لم يكن فيها من أهل المنطقة سوى مديرها، كان هناك ستة معلمين من أهالي مدينة الموصل يدرسوا الموضوعات المختلفة وكانوا – وكما اتذكرهم – مثالاً للأدب والاخلاق والالتزام في أداء الواجب بكل جد واحترام فهذا المعلم محمد الذي يدرس الرياضة والنشيد وحول حديقة المدرسة الى جنة، وهذا المعلم جورج الذي كان متفوقاً في تدريس اللغة الانكليزية، وهذا مصطفى الذي يبدع في تدريس الجغرافية والتاريخ والمعلم يحيى الذي يبدع في تدريس موضوع الأشياء والمعلم عبد القادر البارع في تدريس الرياضيات، كلهم من الموصل الحدباء والفيحاء وأم الربيعين ، رحمهم الله إن ماتوا وأطال الله عمرهم أن كانوا أحياء. في الستينيات من القرن الماضي فتحت عدة كليات تابعة لجامعة بغداد في الموصل وعمل نائب رئيس جامعة بغداد في الموصل الاستاذ الدكتور نجيب خروفه بكفاءة ومثابرة لا مثيل لهما لارساء جامعة رصينة متميزة وكان موفقاً في ذلك، وعندما تولى رئاستها الأستاذ الدكتور محمود الجليلي أرسى أعرافاً جامعية رصينة كانت لها الفضل في تعزيز رصانة هذه الجامعة المتميزة ولا أنسى مقابلتي له عندما أوفدتني جامعة بغداد لفصل حسابات جامعة بغداد عن جامعة الموصل، ومساعدتها في فتح حساباتها، عندها اختبرني في علم المحاسبة قبل أن يسمح لي بمساعدتهم في تلك المهمة ، لا بل وكما أتذكر انه أجرى معي حواراً مالياً ومحاسبياً في تلك المقابلة . تكررت زياراتي كثيراً لهذه المدينة العظيمة في تأريخنا العراقي والعربي والاسلامي، فأرض نينوى موطن الحضارة الاشورية العظيمة وهي المدينة العربية التي أصرت ان تبقى ضمن العراق الدولة العربية، وهي المدينة الاسلامية الملتزمة التي لها تأريخها الحافل في الحضارة الاسلامية والتي انجبت الكثير من علماء الدين والمفكرين والاساتذة الاسلاميين فضلاً عن مراقد العديد من الأنبياء والأولياء الصالحين، وهي المدينة التي قاومت الكثير من الغزوات وحدتها، وصبرت على الكثير من ما حاقها من حصارات ومحاولات دمار و إبادة وتخريب وصدتها بكل شجاعة ومقاومة متميزتين والكتب التأريخية كثيرة وشاهدة على ما أقول وأفضل ما قرأته عن ذلك هو ما ورد عنها فصول عدة في كتاب (العراق في التأريخ) الذي ألفه عدة مؤلفين عراقيين متميزين. أعود الى ذكر ما علق في فكري وذاكرتي عن أهالي الموصل ، هو ما يتميزون به أهلها من جد ومثابرة في الدراسة والعمل والاداء، ونادراً ما تجد فيهم من يتجرد من هذه الصفات التي يتميز بها غالباً جميع أبناء المناطق أو الدول الشمالية ذات الجو البارد او البارد جداً وهو أحد أهم العوامل التي تجعل الانسان فيها دؤوباً ومثابراً كما اعتقد أما الحرص أو التدبير والعقلانية في الإنفاق فهو ليس بخلاً كما يعتقد البعض في بلادنا – مازحين غالباً- بل هو حسن تصرف والتزام بالآية القرآنية والمبادئ الاقتصادية الاسلامية التي ينصح فيها الباري سبحانه (( ولا تجعل يدك مغلولة الى عنقك ولا تبسطها كل البسط )) وهناك سبب مهم آخر بحسبما قرأته في تأريخ هذه المدينة وما سمعته من معلومات من إخواني الموصليين وهو ما عانته المدينة على مر التأريخ وفي القرن الثامن عشر والتاسع عشر تحديداً من حروب وفرض حصار التي عصفت بهم وأهلكتهم جوعاً ، فجعلتهم ذكرى هذه المأسي مدبرين وحريصين غالباً، فأهل هذه المدينة ليسوا بخلاء إلاّ أنهم كرماء ، مضيفون الغرباء أفضل ضيافة وكرم، ولطالما كانت في موائد ضيافتهم لنا عند زيارتنا لمدينتهم ما لذ وطاب من الاكلات وليس فقط كبة البرغل التي يشتهر بها الموصليون. ولا أود أن اطيل على قرائي سرد صفات أهالي هذه المدينة الحلوة والجميلة فإن ما أنجبته هذه المدينة من اطباء ومهندسين واقتصاديين واختصاصيين وعسكريين اكفاء جداً كان وما زال لهم الفضل في بناء العراق وهم السباقين في نهل العلم والانصراف إليه بكل شغف وشوق ليس لطلب الرزق والعيش فقط بل للإفادة منه في إشباع الفكر الذي لا ينضب من العلم والمعرفة . أعود الى المدينة وضواحيها وكما عرف عن تأريخها العريق وثروتها الاثرية والكثير من معالمها الاسلامية وما يعود الى الديانات الاخرى فقد حباها الله بجو لا مثيل له في الدنيا فهي ام الربيعين، إذ لا خريف فيها بل ربيع وما أجمل ربيعها التي غالباً ما صادفت سفراتي أليها في موسم الربيع، وهضابها الخضر ونسيمها العذب وماء نهر دجلة الذي يشطرها الى صوبين يضيف الى هذه المدينة جمالاً على جمال. أن مدينة الموصل كانت أولى المدن العراقية التي أقيمت فيها الصناعات المختلفة جزء مهم منها كان ملكاً وما يزال للقطاع الخاص وغالباً ما كانت في منتهى الجودة ولا عجب في ذلك ، إذ لا يوجد قماش ذاعت شهرته لعده مئات من السنين وما زال غير الموسلين، وهذا ما يدفعني إلى مناشدة الدولة بضرورة توجيه استثمارات كبيرة لهذه المدينة وانشاء قاعدة صناعية وزراعية ضخمة فيها تعود للقطاع العام او الخاص فضلاً عن استثمارات ضخمة سياحية فهي افضل مدينة سياحية في العراق يمكن أن يجد فيها العراقيون الراحة والاستجمام في الربيع؛ لانها مدينة ناس طيبي النفس وكرام، فهل تلتفت الحكومة بجد لذلك كون الموصل فعلاً كما قال عنها المرحوم حضيري ابو عزيز : حلوة وجنة، وأنا اضيف إليه أن أهلها هم الأحلى.
أ.د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
أحيا وأموت على البصرة
مرة اخرى أجدُ في اغاني المطرب حضيري أبو عزيز مصدر الهام لكتابة خاطرة جديدة, فبعد أن كتبت خاطرتي الاولى التي استلهمتها من أغنيته (احنه بنات البلد والكهرباء عدنه) ذكرتني زيارتي الاخيرة لمدينة البصرة بأغنية هذا المطرب المشهور (أحيا وأموت على البصرة), والتي استمعت اليها كثيراً في خمسينيات القرن الماضي وأدركت مدى صدقها في الستينيات منه عند زيارتي الاولى لها في ربيع عام 1961, فقد كانت فردوسًا وجنة لله على أرضه, ما أجمل اسواقها وما أعذبَ ماءها واطيبه , ما أجمل عشارها الذي بقى اسمه الشاهد الوحيد على ضريبة العشر التي فرضها الخليفة عمر بن الخطاب (رض), ما أجمل أثلها وخورتها وأبا الخصيب فيها. وحقًا كان يردد هذا المطرب أن البصرة فيها الزبير وفيها التمر وفيها الخبر. اما اهلها فكانوا وما يزالون من أطيب الناس في العراق و اكرمهم, هادئين بطبعهم, صابرين على أمرهم, عابدين لربهم, هذه البصرة كما شاهدتها وعرفتها في سفرة طلابية في ذلك الربيع, وإن كان اهل البصرة بطباعهم المتميزة والكريمة هم على حالهم لم يتغيروا على الرغم مما أنزله نظام صدام بهم من كوارث نتيجة حروبه العبثية, لانهم اصلاء , أبناء عشائر عربية أصيلة , يمتد تأريخها ومجدها حتى تأريخ بناء هذه المدينة التي أدت خدماتها للعراق منذ نشوئها وحتى الان, فهي عين العراق على الخليج وعلى اهله وبفضلها نشأت افضل العلاقات الاقتصادية بين العراق وامم كثيرة, ومن يُرد الاستزادة من هذه المعلومات فليقرأ كتاب المرحوم صالح احمد العلي (تأريخ البصرة في القرن الاول الهجري) أو كتاب الدكتور عبد العزيز الدوري (تأريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري ) فسيجد المزيد من التفصيلات, اما في الفقه والاداب والفلسفة فأن لابناء البصرة باعًا طويلاً فيها, فهي التي انجبت الفلاسفة والعلماء مثل الجاحظ والفراهيدي والفارابي والبصري وغيرهم من فقهاء وأدباء وشعراء, ولعل من أبرزهم في عصرنا الحالي الشاعر المرحوم بدر شاكر السياب. أعود الى هدفي الرئيس من خاطرتي هذه , لاقول إن الشعب العراقي وحده يعرف مدى التضحيات التي قدمها ابناء هذه المدينة, والخراب الذي أصابها طيلة الاربعين عاماً الماضية , وعلى الرغم من مرور عامين على سقوط النظام , فأن البصرة التي تطفو على أكبر بحيرة نفطٍ وماءٍ في العالم تجد آثار الحروب مازالت قائمة فيها, ومعالمها مشوهة, وجمالها الفردوسي اصبح قاحلاً شاحبًا, والنظافة فيها معدومة بل تجد النفايات مكدسة في اهم شوارعها. أين محافظها من هذه الحالة المزرية؟ أين رئيس بلديتها؟ والتي هي من أولى واجباتهما. أين اعضاء مجالس المحافظة والبلدية؟ أين المنظمات الشعبية ؟ وأين التنظيمات الحزبية؟ لا أعلم! لماذا لا تخصص الاموال الكافية لتنظيف شوارع البصرة وساحاتها وانهارها, هل هذا جزاء البصرة واهلها الطيبين, وهل طيبتهم دفعت المسؤولين لاهمالهم واهمال مدينتهم العظيمة, أين الوفاء يا أيها المسؤولون في بغداد وفي البصرة لهذه المدينة المجاهدة. اعود واقول إن الدكتور احمد الجلبي لم يكن جريئاً بما يكفي للوفاء للبصرة بما اقترحه من تخصيص 20% من موارد نفطها الاغزر في العالم كله لاقليم الجنوب ولكني اقترح تخصيص 50% للانفاق على البصرة واحيائها واهلها حتى تعود البصرة فردوس العراق, ولؤلؤة الخليج وأجمل مشتى ومدينة في العالم, مدينة أعراس العراقيين جميعًا, متى أصبحت البصرة هكذا ولكل حادثة حديث. ختاماً يا ايها المسؤولون في بغداد وفي البصرة عليكم الاهتمام بالبصرة وبأهلها الكرام, يا أهالي البصرة الصابرين كفا صبرًا أطول من صبر النبي ايوب (عليه السلام) , فتضامنوا واعتصموا وتظاهروا من أجل البصرة وأنا سأبقى على الدوام شاكراً للمرحوم حضيري ابو عزيز لأغنيته الجميلة: أحيا وأموت على البصرة
أ.د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
فوك النخل فوك
لا يوجد أعز وأكرم مما ورد في قراننا العظيم من منزلة للنخلة ورطبها الخير إذ قال سبحانه وتعالى في سورة مريم{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً }أمَّا إذا قلبنا صفحات التاريخ وما كتب عن النخيل وأنواعه فهو كثير جداً ولكن أهم أنواعه ما ذكره الدوري وهو يزيد على ثلاثمائة في كتابه تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري، ولا ننسى أيضاً ما قاله عنها أبو العلاء المعري عند زيارته للعراق بأن ( أشرف الشجر النخيل) ومما ذكر عن فوائدها الغذائية، ولا أنسى أبداً تفوق النخيل على جميع أنواع المنتجات الغذائية الزراعية والحيوانية لأن النخيل وتمورها وفوائدها الغذائية والاقتصادية كان موضوع بحثي للتخرج في مرحلة الدراسة الأولية (البكالوريوس) في كلية الاقتصاد والتجارة سنة 1962 (كما كانت تسمى وقتذاك) لقد كانت الأرقام تجزم (وما زالت) ان كيلو التمر يحتوي على (1760 سعرة حرارية) فلذلك تراه متفوقاً بدرجة عالية على بقية المنتجات من بيض وحليب وسمك ودجاج وغيرها ، لذلك كان توفر النخيل وزراعتها في العراق بكثرة مصدر غذاء جيداً جداً للعراقيين منذ قديم الأزمان. وقبل ان أطيل عليك عزيزي القارئ هدفي من هذه المقالة هو أني وددت أن أشير قبل ذلك إلى المرحومين كاتب الأغاني جبوري النجار الذي كان يعمل نجاراً في عمادة الطلبة والأقسام الداخلية في جامعة بغداد الذي لطالما تحدث لي عن المرحوم ناظم الغزالي عند زياراته لي في رئاسة جامعة بغداد خلال الستينيات من القرن الماضي عن أخلاق ووفاء المطرب ناظم الغزالي ولعل سر تعلقي بالنخلة هو تمكني من تسلقها والأكل من ثمارها على الرغم من ارتفاعها وأنا طفل عمري الخمسه سنوات، وفي بداية الخمسينيات استأجر والدي لي بستاناً كاملاً في مدينة القاسم لأمارس هوايتي(بتسلق النخيل) لذلك لا استطيع إلاَّ أن أرد على سؤال الأهل والأصدقاء عندما يسألون عن الأحوال بقولي( الحمد لله فوك النخل فوك). واغنية فوك النخل فوك التي ما زالت شهيرة تسمع سواء بتسجيلات أغاني ناظم الغزالي الإذاعية أو التلفزيونية أو بأصوات غيره من المطربين العراقيين أو العرب وما زالت شائعة في جميع أنحاء الدول العربية وليس العراق فقط وأحياناً تغنيها فرق أجنبية عندما تشارك أو تُضيف بمهرجانات غنائية (كما ألاحظ أحيانا). وما زلت أرى أن من الضروري أشير لغرض التذكير كيف كانت بساتين النخيل في عراقنا الحبيب حتى أواخر السبعينيات زاهرة في خضرتها وسعفها وعثوق ثمارها التي كانت غزيرة لتوفر الملايين منها في عراقنا وكانت على مختلف أنواع تمورها الكثيرة مصدراً غذائياً رخيصاً وعظيم الفائدة نتفاخر به نحن أبناء العراق وما زلت أتذكر أننا دائماً كنا نقول ( نحن العراقيين لا نجوع ما دام لدينا التمر) . حصل ما حصل خلال السنوات الثلاثين الماضية وإذ دمر الزرع والضرع ولم يسلم النخيل من أيادي الجلادين بالقطع أو القلع أو الحرق، وإني لا أنسى ما دمت حياً صورة ذلك الفلاح الحلي الذي كان جالساً على جذع نخلة مقلوعة سنة 1992 عندما سألته ألا يسمحوا لكم بإعادة زرع النخيل ، أجاب: وما الفائدة متى نأكل منها . استوردت أقطار عربية كثيرة من العراق فسائل النخيل وتكاثرت وازدهرت بساتينهم وشوارعهم الرئيسة بأجمل الشجر (النخيل) وتكاثرت حتى أصبحت من منتجاتها الزراعية الرئيسة ولكننا فقدنا ثروتنا منها وخلت أغلب شوارعنا ولم تعد يزينها النخيل كم كانت سابقاً بعد أن شملها القطع والقلع (وزحف التعمير) وإن كنت تشاهد عزيزي القارئ أجمل وأرشق الشجر النخيل في شوارع ومنتزهات دول الجوار تجدها في شوارعنا إما عوجاء أو جرداء أو غبراء (مع الأسف) وإني لا أنكر جهود أمانة بغداد التي قامت بزرع مئات الآلاف منها ولكنها ما زالت فسائل صغاراً، ولا أرى أن هناك ما يمنع من أن تضع أمانة العاصمة برنامجاً إستراتيجيا من ضمن مشاريعها الإستراتيجية بزراعة عشرات الملايين من شجر النخيل لتجمل بغداد وتقلل من حرارتها وتكون مصدر غذاء رخيصاً للعاملين عليها وغيرهم من أبناء بغداد من تمرها الرخيص ورقعة بغداد صالحة لزراعة الملايين فيها من هذا الشجر الشريف . أعود إلى النخلة وأزمة الغذاء العالمي التي عمت في العالم في هذه السنة وكثر الحديث عنها وطمأنا الكثير من المسؤولين و غير المسؤولين بأننا في منأى منها وأنا أؤيدهم في ذلك، لأن المجاعة عصفت بشعب العراق منذ فرض الحصار على شعبه المسكين وليس على حكومته الجائرة في أواخر سنة 1990 واستمر طويلاً فكانت البطاقة التموينية والتقتير في الأكل وانتظار مكرمات بكيلو رز ومثله طحين حتى انفرج الحال لسنة أو سنتين إلا أننا عدنا نرى ما ينقص من مفردات التموين وليس زيادة فيه لذلك نحن متعودين على مجاعات تدوم سنين وليس حين. إني أرى أن وزارة الزراعة والأجهزة المتخصصة في مؤسسات الدولة كافة يمكن أن تضع برنامجاً إستراتيجيا لتحاشي أزمة الغذاء والطعام في السنوات المقبلة والحد من الاعتماد على النفط بوصفه مصدراً لتمويل استيراد الغذاء سواء كانت في البطاقة التموينية أم غيرها هو أن تؤمن مصدر غذاء غنياً بالفائدة رخيص الأسعار وهو أحد الحلول المهمة والمستقبلية التي يجب أن تضع الحكومة ممثلة بوزارة الزراعة اهتماماً كبيراً جداً بزراعة الملايين من أشجار النخيل ومتى ما تحقق هذا الأمل الذي يعد تحقيقه أمراً ليس بعسير بل إنه حسب اعتقادي ممكن وسهل التحقيق سيجعل الشعب العراقي دائماً فوك النخل فوك ، وسأبقى أرد على التحية (الحمد لله فوك النخل فوك).
أ.د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
البيه خير يسوي لنفسه خير
رحم الله جدتي الفاضله التي غمرتني بحنانها ورعايتها طيلة مدة دراستي في المرحلة المتوسطة ومنها تعلمت الكثير مما خبرته وعرفته من حياتها في هذه الدنيا الفانية وقبل أن أوضح ماجاء في عنوان مقالتي هذهِ وعلاقتها به لابد أن أذكر لحضرتك أيها القارئ بعضاً من حالات تشطارتها وكفاءتها ودقتها بالتعامل مع الأمور والأمثال الكثيرة جداً التي حفظتها , ومنها إني لازلت أتذكرعندما كنت أرافقها في التسوق تسأل البائع كم هو ثمن هذهِ الحاجه ياحاج فيجيبها بدينار , ولكنها لاتقتنع بالثمن وتعرف أنه مبالغ فيه كالعاده أو أنها تستطيع أن تقدر حقيقة الكلفه والثمن الصحيح لها , فتجيب عليه كلا أنه لايساوي أكثر من مائه فلس , وأتفاجأ أن البائع يرد عليها بالموافقه على السعر المقترح من قبلها , فهل كان مبالغاً في سعرهِ الى هذا الحد , أم أنه يعرف أنها تعرف السعر جيداً فلذلك يرفع السعر كثيراً لأنها ستخفضه كثيراً , ولكن المفاجأه الأكبر لي أنها تتراجع عن السعر الذي حددته والذي هو مائه فلس فترد عليه كلا لقد غلبتني أن ثمنه خسمون فلساً فقط ,أما المفاجأه الأكبر الأخرى فهي قبوله بالسعرالجديد الذي حددته وهو خمسون فلساً . في أحد الأيام وعندما كنت صغيراً طلبت مني مصاحبتها لزيارة العتبات المقدسه في سامراء وكان الأنطلاق لهذه الزياره من مدينة الكاظمية وعند ذهابنا إليها من علاوي الحله لم يكن في الباص سوى مقعد واحد شاغر جلست هي فيه وجلست أنا في ممر الباص على كاره الأفرشه ( اليطغ كما يسميها العسكريون) التي جلبناها معنا , وعندما أتى جابي المصلحه لأستلام الأجور طلب منها دفع بطاقتين واحدة عنها وواحدة عني أجابته كلا أن ماتدفعه هو ثمن بطاقه واحده فقط لأن هذا الصغير جالس على كاره الأفرشه وفي الممر وليس على كرسي ففي هذهِ الحاله لاتدفع عنه أجره إلا إذا جلس على كرسي , وبين أصرار الجابي على دفع ثمن بطاقتين وأصرارها على الرفض نشب نقاشٌ حامٍ بين راكبي الباص نصف منهم مع الجابي لأن في ذلك مسؤوليه وقد يأتي مفتش المصلحه ويخضع للحساب أما النصف الآخر فيؤيد وجهه نظرها بأن هذا طفل صغير ولم يجلس على كرسي لذلك لاآجره عليه . لم ينته الجدل بين راكبي الباص حتى وصولنا مدينه الكاظمية ونزلنا منه من دون أن تدفع عني الأجرة . أعود الى عنوان مقالتي هذه , حيث أنها ( رحمها الله) كانت تملك من الأمثال المئات إن لم تكن الالالف ولكنها حكم وتقولها في حاله أو حدث أو حديث مناسب , وماعلق في ذاكرتي على الرغم من مرور ستين عاماً على سماعي لهذا الذي هو عنوان خاطرتي وهو (البيه خير يسوي النفسه خير) حيث تردده عندما يرد الحديث عن شخص أستحوذ على منفعه لنفسه دون أخيه , أو شخص ما لايهتم إلا بنفسه دون غيره وغيرها الكثير من الحالات المشابهه فتعلق عليه بذلك المثل ( البيه خير يسوي النفسه خير) , أتذكر مثلها هذا الجميل الذي توضح فيه أسباب الأنانية والأثره على الأنسانية والأيثار لدى بعض الأشخاص , وأن كانت حالات المثل قليله في ذلك الحين , أصبحت واسعه ومستشريه في هذا الحين , وبين ناس أصبحوا لايهمهم سوى أنفسهم في كل شيء حلال أم حرام وعدم أهتمامهم بأحوال قريب وبعيد , , ولكن مايثير العجب والأستغراب هو شيوع هذهِ الحاله السلبيه لدى الكثير من إداري ومسؤولي الدوله والحكومه في وقتنا الحاضر حيث هؤلاء (بعضهم وليس جلهم) لاهم لهم سوى مصلحتهم الخاصه بما أوكلوا عليه أو في الحقيقة ماأتمنوا عليه , بل هو يؤمن بذلك المثل ويعمل به وحيث أنه لايعلم كم سيبقى في هذا المنصب أو يدوم وبما أن العراق بستان محروق ((على حد قول أحد مسؤولي الحكم الملكي)) فتراه يباشر حال تسنمه موقعه في تحقيق ما ينفعه ويفيده أما المؤسسه وخدمتها وتطويرها لخدمه أبناء الشعب العظيم فهذا أمر لاعلاقه له به لأنه هو ليس رجلاً مناسباً في مكان مناسب وهو طالب ولايه كان ينبغي أن لايولى لذلك فهو يؤمن تماماً بالمثل الذي كانت تردده جدتي (( البيه خير يسوي لنفسه خير)).
أ.د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
بولندا وفردوسها مدينة وارشو بين الماضي والحاضر
تسنح في حياة كل فرد فرص ما, وقد يكون اقتناص تلك الفرص يحقق له الحلم أو الهدف الذي يسعى إليه , ولم يكن حلمي في إكمال الدراسة والحصول على شهادة الدكتوراه ليتحقق إلا بعد أن توفرت عوامل عدة منها: إعفاء المدير العام من منصبه, الذي كان لا يسمح لي بالترشيح لأية بعثة أو لأية زمالة لجديتي في العمل المحاسبي وعملي بأمانة وبما يملي عليّ ضميري وواجبي, والذي كان له الأثر الكبير والواضح في نجاحه في إدارته – كما اعتقد – ولكنه كان يكنّ لي في الوقت نفسه الاحترام الكبير وهذا ما خفّف عليّ هم حرماني من إكمال دراسة الدكتوراه في حينه. وتحقق حلمي الذي كنت أتمناه إذ منحت زمالات دراسية إلى جمهورية بولندا الشعبية (بولونيا كما كانت في ذلك الحين), وكانت هذه الفرصة ثمينة بالنسبة لي حققتها لي عدالة الوزير في منح الزمالات. سافرنا إلى بولندا للدراسة في أوائل السبعينيات, والتي كانت وما زالت تحكم على أساس النظام الشمولي الذي اتصفت به أنظمة الحكم في دول العالم الاشتراكي في تلك الحقبة من الزمن, وحال وصولنا إلى مدينة وارشو عاصمة بولندا استقبلني أنا وزوجتي صديق حميم, وأعلمني بأن سكرتير حزب العمل البولوني (الحزب الشيوعي البولوني) ادورد كيرك منذ تسلمه منصبه وهو يعمل جاهداً على اتخاذ قرارات مختلفة هدفها التخفيف من صرامة وجوه النظام الشمولي الذي كانت تتصف به في عقود من السنوات السابقة.وقد اصطحبني صديقي إلى جزء صغير بقي من مدينة وارشو القديمة التي أزاح معظمها الاحتلال النازي, وعلى الرغم مما أصاب مدينة وارشو من دمار وخراب أصر المعماريون البولونيون على إعادة اعمار مدينتهم الجميلة, وتصميمها تصميماً حديثـاً أثار إعجاب كل زائر لها, وكان البولونيون يفتخرون بتراثهم وعاصمتهم القديمة (وارشو) الجميلة جداً, إذ كانوا يقولون لمن يبدي إعجابه بمدينة وارشو الجديدة: إن وارشو القديمة كانت أبهى وأروع, اعتزازاً بتأريخهم العريق الذي كانت تنهض به مدينتهم القديمة, وهم في ما يبدونه لا يختلفون عن أصالة العراقيين في حبهم لعاصمتهم الحبيبة بغداد. و كتابتي لهذه السطور عن هذه المدينة تذكّرني بمقولة للدكتور علي الوردي, عن سر حبه لمدينة (وارشو) التي كانت له محطة استراحة واستجمام, فقد وصفها بأنها الفردوس الموعود, إذ كان فيها يقضي أيام عطلته الصيفية. وفي أثناء سنوات الدراسة التي أمضينا فيها مدة السبع سنوات تعرفنا على بولونيا وشعبها وتأريخها وثقافتها من علم وأدب وتأريخ واقتصاد وعلوم أخرى, وكان البولونيون يفتخرون بعظمائهم ومنهم : كوبر نيكوس, ومدام كيري, وشوبان, واوسكار لابكه , وغيرهم الكثير. وعند حصولي على شهادة الدكتوراه كانت العودة إلى بلدي العزيز صعبة من جهتين الأولى: أخذت بولندا تنهج منهج التغير الذي باشر به حزبهم الشيوعي وقيادته بزعامة ادورد كيرك, الذي بدوره سنح لقائد عمالي اخر وهو (ليخ فوانسا) بأن يطالب ويقود حركة التغيير الشامل في بولندا وكانت – في اعتقادي – بدايات التغيير في عالم المعسكر الاشتراكي, ولم ينجب العالم الاشتراكي غوربا شوف قائداً تحـريرياً الا بفضـل القـائـد العمالي ادورد كيرك وليخ فوانسـا, اما الجهـة الثانيـة: فقد كان الواجب عليّ تجاه وطني الحبيب العودة إليه, كونه يخوض حرباً جُرّ اليها جراً بسبب تسلط الدكتاتور, وما حاكته إسرائيل من شباك الشر, وما تهدفه مخابرات الأمريكان , فكان نداء الوطن والوفاء إليه أقوى من العزوف عنه والبقاء في بولندا أو اللجوء إلى غيرها. مضت السنون وعراقنا الجريح يمر بحرب تلو حرب, وبأزمة تلو ازمة , ومن مشكلة إلى مشكلة أقسى منها, اما بولندا فلم ولن أنساها ابداً, وأتطلع إلى متابعة أخبارها وما حل فيها من تطور وازدهار واعمار ولطالما اتوق إلى زيارتها ولم تسنح لي الفرصة بذلك حتى سنحت لي في الشهر الأخير من سنة 2006, واني لم افاجأ عندما رأيتها مزهرة مزدهرة وازدادت جمالاً وفتنة وهذا ما اعتادت عليه عيناي بأن أراها دائماً مبتسمة جمالاً وعلماً وادباً,وقد أعلمني محدثي البولوني بشيء مهم بأن مدن بولونيا الأخرى شملها التطور ولاحها النور وإشعاعه ليغطي جميع مدنهم, ولكن الأهم طبعاً في رقي وعلو مستوى إنسانيتهم وعلى الرغم من قصر مدة الزيارة تحققت, وبفضل اجادتي اللغة البولونية وتحدثي طويلاً مع الكثير منهم وجدت ان التغيير زادهم علماً وادباً وثقافة كما وأنهم – كما هو معروف عنهم في علو مستوى كفاءتهم وإدارتهم في اعمالهم – زادت إنتاجيتهم وتحسنت كثيراً دخولهم واقتصادهم وعملتهم . اعود إلى هدفي المهم من مقالتي هذا وادعو ربي ان يوفق الله عراقنا وشعبه وأن يكون التغيير الحاصل عاملاً في رقي شعبه علماً وادباً وثقافة, ولاشك في أن ذلك لا يحصل إن لم ينعم بأمان ووفاق واخاء شعبه جميعاً ليكون ذا اقتصاد متين وشعب ينعم برفاه مادي واجتماعي وتزداد بغداد عاصمتنا جمالاً وبهاءً. إنه سميع مجيب الدعاء
أ.د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
يا أيها المسؤولون قولوا نفذنا ولا تقولوا سننفذ
لا شك إن من حق أي حكومة كانت وفي أي بلد كان تسير وتدير دفة البلاد بأي فكر – او ايدلوجية – كان ان تذكر منجزاتها وما حققته من أهدافها التي وعدت بها ناخبيها من أبناء الشعب عموماً، وغالباً ما يتم ذلك عبر مؤتمرات صحفية مبرمجة متكررة يعقدها رئيسها او الوزراء المختصون فيها او الناطق الرسمي لها، وغالباً ما يركز في هذه المؤتمرات على ما نفذ او انجز وليس على ما سينفذ او ينجز لان ذلك معروفاً وواضحاً لجميع من يهمه التحقق مما وعدت فيه سابقاً من تحقيق خططاً ومشاريعاً واهدافاً مبرمجة . يحدث ما ذكرته دائماً في البلدان المتقدمة والراقية اقتصادياً واجتماعياً ولكنه لا يحدث في البلدان النامية ( عفواً النايمة ) لأسباب كثيرة ومنها ان هذه البلدان هي لا راقية ولا متحضرة ولا ديمقراطية وتسوسها حكومات تدعى انها وصلت إلى سدة الحكم بالديمقراطية وهي ابعد من ان تكون ديمقراطية، تدعى الثورية، وهي لا تعرف غالباً ما هي الثورية لأنها في حقيقتها تأتي بمبدأ نفذ ثم ناقش، ومن ابتدع هذا الشعار أستعمله مرة او مرتين اقتضتها ظروف الثورة حينذاك ولكنها في بلداننا استمرت دائماً ما دام التنفيذ قد اوقع الفأس في الرأس، أعتقد انه للتصفيق لحكمة القرار الخطأ او لتبرير ما حدث من خطأ لا لتفادي الخطأ او التعلم منه كما يملي العقل ذلك على أي إنسان له دماغ، ولكنه للأستمرار في الخطأ فكان هذا الأسلوب في إدارة الأمور كارثة او مأساة ( او سمها ما شئت ) وقعت علينا وأفسدت احوالنا من جميع الأركان . أعود الى عنوان خاطرتي هذه واقول، اعتدنا ومنذ ان بدأنا ندرك اننا ابناء هذا الشعب والوطن العظيم، أننا عراقيون خرجنا من ظلمة وظلم الأتراك لنقع في شرك وكذب الانكليز الاشرار وبعد ان دحر المكوار المدفع الدوار، قام الحكم الوطني لأبناء العراق الاشاوس الابطال وبدء الانتظار لعهد منوار طافح بالخير والبركات واذا به لا هذا ولا ذاك بل حصد الانكليز أفضل ما في هذا البلد من خيرات وتركونا ننفث الزفرات ونلعق الحسرات، حتى نزلت البركات بفضل مناصفة الشركات النفطية بالأرباح وكان ذلك بداية الخمسينات وبدأت التصاريح والأقوال وبرامج النفاق من الإذاعة بان العراق في أنتقال الى اين الله أعلم ؟ وكان ما نفذ من تلك البرامج والمخططات هو فتات الفتات، كان ذلك في العهد المباد، اما في عهد الثورات فقد تزعم الامور زعيم همام كان همه إزاحة الأوهام ومحاربة الاستعمار والأذناب فحصل الهرج والمرج وتسارعت الأحداث وحصل كل ما يكن بالحسبان، ومع ذلك لم ينس هذا الهمام أبناء الفقراء فوعد برفعهم الى مقام الأغنياء، وذهب من دون تحقيق المرام وان كان ما حققه لا زال شاخصاً للعيان، ولا اريد ان أطيل الكلام لان ما بعد الإطاحة بالزعيم المقدام حتى الان هي اربعون عام، يطول عنها الكلام ويملئ آلاف الصحف والمجلات، لا بل الكتب والمجلد والكلام عنها محض جفاء واختزالها ذهباً صفاء حتى نصل بسرعة الى ما نحن عليه من أحوال وان تصفحتم الصحف والمجلات والتي بحمد الله وفضله المئات تنطق بأسم هذا الحزب او ذاك او لا علاقة لها بهذا ولا ذاك فماذا ستجدون فيها يا أخوان، أقول ستجدون العجب العجاب لتصريحات مسؤولينا ذوي الألباب، سننفذ هذا او ذاك وانتظروا يا أبناء العراق، ستكونوا أسعد السعداء، كما بشركم في الستينات أعرق الأحزاب، تفحصوها يا اخوان واجمعوا ما خصص من مليارات الدنانير والدولارات يصرح بها هذا المسؤول وذاك وان جمعتوها بعملية حساب ستجدوها آلاف آلاف ( ملايين ومليارات ) تملئ خزائن الأرض كلها وليس فقط العراق . فأذا كان الامر هو بما اكد هذا المسؤول وذاك بأنه سينفذ هذا وذاك، فلماذا لا يسير أبناء الشعب بملايين المظاهرات شاكرون فضل المتفضلين عليه بالانجازات، بعد هذا أقول مع الاسف جُلها تصاريح هراء، فراغ في فراغ، لأن مسؤولينا يقولون غالباً سننفذ ولا يقولون نفذنا ورحمك الله ياعالم العلماء مصطفى جواد فطالما شنفت أسماعنا من اذاعة بغداد ببرنامجك الرائع قل ولا تقل فهل هناك من يعيده الى الحياة ولجديد من الغايات ؟
أ.د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
ديمقراطية التعليم بعد ديمقراطية التسييس
قبل سنتين نشرتُ مقالة لي بعنوان: ديمقراطية التعليم قبل ديمقراطية التسييس، وكان تأريخ نشرها قد سبق إجراء الانتخابات السياسية الشهيرة في عراقنا الجديد, ولم تلق تلك المقالة أي تجاوب او صدى لدى مسؤولي التعليم العالي, لكنها قوبلت باستحسان من قبل الكثير من الزملاء الأكاديميين وآخرين من المؤمنين بالديمقراطية والشفافية في جميع أوجه الحياة لمجتمع لم يلق على مر السنين الا الاضطهاد والقهر برغم طاقاته وانجازاته الكبيرة ومساهماته العظيمة في بناء الحضارات الإنسانية المختلفة. نعود الى صلب خاطرتنا هذه واقول ان من العجب العجاب في بلدنا الزاخر بما فيه من عجائب هذا الزمان انك تجد غالباً (مع الأسف) ان مثل هذه الآراء او الأساليب الديمقراطية ،بل حتى الأكاديمية ترفض من قبل أكاديميين وجامعيين يقتضي الأمر ان يكونوا من المنادين الأوائل بالديمقراطية والشفافية, ليس في الحياة الجامعية الأكاديمية ، وإنما في جميع اوجه الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية . وبرغم هذا وذاك فاني ارى ان المؤسسات الجامعية والتعليمية العالية ينبغي ان تكون هي الأنموذج الأمثل من جميع نواحي الحياة تلك, وبعكسه فهي لا تعليمية ولا عالية, بل رجعية لا قيمة لها ولا فائدة ترتجى منها. ونحن مازلنا في مقدمة خاطرتنا هذه أرى ان من المهم التطرق إلى تجاربنا الديمقراطية وغير الديمقراطية في الحياة الجامعية, وكان أبرزها عملية اختيار رئيس لجامعة بغداد التي جرت في سنة 1961 على وفق قانونها ولاقت صدى كبيراً ليس فقط في الأوساط السياسية فحسب, وإنما في الأوساط الشعبية عامة لما استندت اليه عملية الاختيار من أُسس علمية موضوعية متميزة, فحققت تلك العملية مبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب . بعد الكثير من المتغيرات السياسية والاجتماعية، وبعد تأسيس الكثير من جامعات البلاد, تطورت الديمقراطية والشفافية في تسنم المناصب الجامعية، و قد استندت لمدة طويلة من الزمن على عاملين أساسيين لا ثالث لهما ، الموالاة السياسية للنظام والسلطة القائمة (او المتسلطة)، وكذلك للمكانة العلمية المناسبة، وامتد ذلك لمدة أربعين عاماً ،من سنة 1963 لغاية 2003, لكن ولتوثيق الأمور بالعلمية والدقة اللازمتين لابد من الإشارة الى ان الأساس الثاني، وهو الدرجة العلمية المناسبة فرط فيه كثيرًا برغم النصوص القانونية الواضحة في قانون التعليم العالي والبحث العلمي، لان الاختيار غلب العامل الأول على العامل الثاني, فأصبح الاختيار لملء هذه المناصب يجانب العلمية والديمقراطية، وأصبح إشغال جزء غير قليل من المناصب الجامعية مثار جدل، لكون من شغلها او أدارها أشخاص غير مناسبين لها, وحين انتهى ذلك النظام او انهار او قل ما شئت عمّا حصل في 9/4/2003, وجدنا اننا أصبحنا في حال لا اعتقد إن امرءاً، ذا عقل لبيب وحصيف لم يفقد حقه ،تحت احتلال أمريكي قلباً وقالباً, ولا ضرورة ان نسأل عن السبب او المسبب كما اعتقد، بل ذلك كان حصاد أخطاء مقصودة أو غير مقصودة لاربعين عاماً خلت بالتمام والكمال . باشر الأمريكيون،عبر ممثلي حاكمهم العام، بتطبيق او نقل او تجريب مبادئ ديمقراطيتهم، او ديمقراطية جديدة في كيانات او وزارات عراقنا التي فككوها بسرعة فائقة تفوق سرعة احتلالهم لهذا البلد، وبدأوا بإعادة تركيبه لننتقل من العراق العظيم الى العراق الجديد, فباشر ممثلهم في التعليم العالي والبحث العلمي بدعوة التدريسيين فيها لإجراء انتخابات لرؤساء جامعاتهم وعمداء كلياتهم لتحقيق الديمقراطية والشفافية في إدارتها، ولربما كان يعتقد بانه سيتحقق بذلك مبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب. ولكن ومع بالغ احترامنا وتقديرنا لمن فازوا في تلك الانتخابات، فإنها كانت ناقصة وغير ناضجة، ولأسباب كثيرة منها: ان الظروف والأجواء التي جرت فيها تلك الانتخابات كانت غير مناسبة لان البلد لم يمض على سحقه عسكريًا وسياسيًا سوى شهرين أو أقل, كما ان اغلب أعضاء الهيئة التدريسية لتلك الجامعات والكليات كانوا غائبين عنها، اما بسبب عدم انتظام التدريس في الجامعات، او بسبب عدم الإعلان والإعداد الكافي لها قبل مدة مناسبة، خاصة في ظروف عطلت فيها وسائل الإعلام وتعطلت فيها متطلبات الإعداد. كما لابد من الإشارة الى ان إجراءاتها اللاحقة لم تكن موافقة لأحكام القوانين والأنظمة الصادرة قبل سنة 2003م هذه القوانين التي أكدت او التزمت السلطات باستمرار العمل بأغلبها بعد 2003 الى حين تشريع بديل يحل محلها, فأنجبت تلك الانتخابات الكثير من المشاكل العلمية والتعليمية والقانونية وهي لم تحقق (في اعتقادي) وبنسبة غير قليلة مبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب هذا، ولا غرابة في ذلك، فان ذلك الممثل الأميركي وفي لقاء عاصف كان لي معه في مدينة اربيل وجدته لا يعرف ولا يعلم شيئاً عن واقع التعليم العالي في العراق. أعود الى الهدف الرئيس لمقالتي هذه، واقول لقارئي العزيز ان لتحقيق مبدأ ديمقراطية التعليم ،بعد ان نجحنا وبصورة جيدة في تحقيق ديمقراطية التسييس يجب ان تعلم هذا المبدأ سيحقق الكثير من التقدم والتطور والتميز في عراقنا العظيم والجديد، سأذكر هذه بعد ان أوضح الآلية التي ارى انها الاوفق في تحقيق ذلك الهدف العظيم ( ديمقراطية التعليم): ان ذلك يتحقق بالانطلاق من اصغر كيان في مؤسسات التعليم العالي، ولكنه أهمها،وهو القسم العلمي فان جرى اختيار رئيسه بانتخاب يجريه أعضاء القسم ممن لا تقل مرتبتهم عن مدرس ليفوز أكفؤهم وأحقهم في تولي رئاستهم ليقود مسيرتهم الى الإمام علميًا وادارياً وسيكون خير من يمثلهم في انتخاب عميدهم، الذي يجري اختياره وفق أحكام القانون من قبل رؤساء أقسام الكلية العلمية او أعضاء مجلس الكلية، الذين هم جميعًا جرى توليهم لرئاسة أقسامهم بالانتخاب ، فيكون انتخابهم لزميلهم على اساس الكفاءة لانه سيقود كليتهم الى الأمام علميًا وادارياً، ويمثلهم خير تمثيل في اختيار رئيس جامعتهم، الذي يجري بالانتخاب من قبل جميع العمداء المنتخبين ليكون رئيسهم اكفأهم منتخباً ليس من قبلهم فحسب، بل منتخب من جميع هيئة التدريس في تلك الجامعة ،لان كل من شارك في انتخابه كان مشخصًا، وان كل من شارك في انتخابه كان منتخبًا ايضًا، فهل هناك افضل وانقى من هذه الديمقراطية والشفافية التي اقترحها؟ وهل يجوز القول بان ذلك سوف لا يحقق الكفاية والخبرة والتميز في قيادة المؤسسات الجامعية في تعليمنا العالي ام نبقى ننادي بالديمقراطية ولا نمارسها؟ أو هل نستمر في تمني تسنم هذه المناصب؟ المناصب في الدولة جميعها للرجل المناسب في المكان المناسب, وان لم تطبق مثل هذه الديمقراطية في ارقى مؤسسات الدولة, فاين ستطبق اذن؟ , وان قيل بان مثل هذه الانتخابات ستقوم او تحصل بناءً على توافقات او تحاصصات او تآلبات, او تنافعات, فانا اقول ان حصل ذلك فعلاً فعلى التعليم العالي السلام, هذا ولا يفوتني قبل ان اختم مقالتي او خاطرتي هذه ان اشير الى انني تحدثت عن الديمقراطية في مؤسسات التعليم العالي وكان ذلك يخص الجسد فكيف ينبغي ان يكون عليه الحال في الرأس، أي ديوان الوزارة، فان في قانونها احكامًا تنظم ذلك بكفاءة مناسبة، ولكن لا يفوتني ان اذكر ان ادارة دوائرها ينبغي ان يتولاها اساتذة اكفاء في الاختصاص الدقيق ، لهم خبرة وممارسة طويلة في اختصاصهم الدقيق والعام، فضلاً عن ممارسة وخبرة ودراية مناسبة في الامور الادارية والمالية والقانونية, اما اقسامها المتخصصة, فأرى ان تدار من قبل اساتذة مساعدين متخصصين في وظائف تلك الاقسام ولا تدار شعبها الا من قبل حاملي شهادة الماجستير في الاختصاص الدقيق, وجميع العاملين من حملة الماجستير والشهادة الجامعية الاولية، ومن الاوائل المتفوقين ليصبح العاملون في ديوان الوزارة او رأسها بأعلى مستويات التخصص والكفاءة ليكونوا اهلاً لقيادة مؤسسات التعليم العالي وادارتها وباتت هذه الشروط هي الاوفق لذا بدأت الكثير من جامعات العالم تعتمدها ( كما اعلم) . وهذه الآلية المقترحة مطروحة على بساط البحث, نأمل ان توفق في أن تجد لها طريقـًا للاعتماد والتشريع , ومن المؤكد انني لا ادعي أن هذه الاراء تمثل الكمال في تحقيق ديمقراطية التعليم العالي ولكنني استطيع ان اقول انها افضلها (والله اعلم).
أ.د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
ديمقراطية التعليم قبل ديمقراطية التسييس
اعتقد ان اغلب العراقيين يعلمون ان في شهر كانون الثاني 2005م ستجري عملية انتخابية تشمل انحاء العراق كافة وهي ستكون ان شاء الله اول انتخابات حرة وديمقراطية حقا كما نتمنى ان تكون، ولاشك ان ذلك سيحقق ديمقراطية سياسية طالما حلم بها الشعب العراقي وليس تمناها فقط. ولاشك في انها ستسهم في استقرار الاوضاع السياسية وكل حزب سيأخذ ما يستحقه في التمثيل البرلماني المنتخب انتخاباً شرعياً لا شائبة فيه وسيتولى ذلك المجلس مهامه التشريعية على وفق مايحدد دستور حظي بموافقة اغلبية الشعب العراقي ان شاء الله ولكن في خاطرتي هذه اقترح على الحكومة العراقية الانتقالية ووزير التعليم العالي والبحث العلمي ضرورة اغتنام الفرصة وتحقيق ديمقراطية التعليم قبل ديمقراطية التسييس، كيف يكون ذلك ولماذا، لاشك في ان جميع العاملين في التعليم العالي من مسؤولين واعضاء هيئة التدريس يعلمون جيداً ان ديمقراطية التعليم لها شروطها وظروفها وانعكاساتها الايجابية، ولم يشهد التعليم العالي في العراق اية تجربة ديمقراطية حرة وشاملة في اختيار قياداته العلمية وان تجربة انتخاب رئيس جامعة بغداد سنة 1961 كانت محدودة وجرت في جو سياسي مشحون، اما التجربة الانتخابية لعمداء الكليات ورؤساء الجامعات التي جرت في سنة 2003 فقد رافقتها سلبيات عدة منها الاجواء السياسية والعسكرية التي كانت سائدة في بداية الاحتلال فضلاً على الاشراف الاجنبي عليها وقلة عدد اعضاء هيئة التدريس المشاركين فيها ومستعجليتها اذن كيف تستطيع الجهات المسؤولة عن التعليم العالي تحقيق ديمقراطية التعليم ويجني كل العاملين فيه مزاياها وايجابياتها فأني اقترح الآتي:- حيث ان الامتحانات النهائية للسنة الدراسية واعباء امتحاناتها النهائية قد شارفت على النهاية وحيث سينعم اغلب اعضاء هيئة التدريس لحد ما بالراحة والتهيؤ للعام الدراسي القادم وحيث سيكون الاول من شهر ايلول / 2004 هو موعد بدء السنة الدراسية 2004 – 2005 كما ستجري خلال هذا الشهر الامتحانات التكميلية للسنة الدراسية الحالية وتشارف على الانتهاء في شهر ايلول غالباً، لذلك ارى ان اواخر شهر ايلول سيكون موعدا مناسبا لاجراء اوسع واشمل عملية ديمقراطية في تاريخ التعلم العالي في العراق، يحقق فيها اختيار اعضاء هيئة التدريس في الجامعات والمعاهد الفنية قياداتهم العلمية على اوفق ما يكون وذلك في الصورة المقترحة الآتية: أولاً: انتخاب مجالس الاقسام العلمية: ويجري بمشاركة التدريسيين الذين لديهم عنوان مدرس فما فوق ويرشح لرئاسة القسم فقط من هم بعنوان استاذ وان لم يتوفر لديهم في القسم اكثر من استاذ فيمكن للاساتذة المساعدين ان يرشحوا لرئاسة القسم ويفضل ان يجري ذلك في اليوم العشرين من شهر ايلول / 2004. ثانياً:انتخاب عمداء الكليات : ويفضل ان يجري انتخاب عمداء الكليات من قبل اعضاء مجلس الكلية الاصليين ولا يرشح لها الا من كان بدرجة استاذ حصراً او ان تجري انتخاباتهم من قبل عموم اعضاء هيئة التدريس وممن هم بدرجة مدرس فما فوق وارى ان الاسلوب الاول اكثر تركيزاً وسهولة والاسلوب الثاني اكثر عمومية واصعب من الاسلوب الاول الا انه حقاً اكثر ديمقراطية وانفتاحاً واقناعا لعموم اعضاء هيئة التدريس بكفاية الاختيار ويمكن ان يجري ذلك في اليوم الخامس والعشرين من شهر ايلول /2004. ثالثاً: انتخاب رؤساء الجامعات: اما انتخاب رؤساء الجامعات فأرى أن يجري من قبل اعضاء مجلس الجامعة حصراً دون الحاجة لمشاركة عموم اعضاء هيئات التدريس في كليات الجامعة وذلك لان مثل هذه العملية قد تكون واسعة جداً وتحتاج الى جهد كبير فضلاً على عدم معرفة جميع اعضاء هيئة التدريس في الكليات للمرشحين او قد يحصل تكتل من قبل تدريسيي الكليات التي اعضاء هيئة التدريس فيها كبير على حساب المرشحين من الكليات التي اعضاء هيئة التدريس فيها قليل وفي حال انتخاب مجلس الجامعة لاحد اعضائه من عمداء الكليات رئيسا للجامعة فيحل محله المرشح الذي يليه في انتخبات عمادة الكلية عميداً لها ويمكن ان يجري ذلك في اليوم الثلاثين من شهر ايلول / 2004. ان مدة تولي رئاسة القسم او العمادة او رئاسة الجامعة يفضل ان لا تتجاوز الاربع سنوات حيث تجري انتخابات جديدة في حالة انقضائها ولا يجوز تكرار الترشيح او تمديده وذلك لضمان رفد هذه القيادات الجامعية بكفاءات جديدة يمكن ان تقود التعليم العالي خطوات اخرى الى الامام اسوة بالقيادات التي سبقتها. ان تحقيق ديمقراطية التعليم المنشودة في مطلع العام القادة بانتخابات ديمقراطية ونزيهة تمارسها طليعة المجتمع العراقي العلمية والثقافية ستكون انموذجا متميزا للانتخابات السياسية التي ستجري بعدها بثلاثة اشهر فقط، وتعطي دليلاً على ان الشعب العراقي سوف يمارس الديمقراطية بكل مفاصلها وبأفضل صورها ولا مسؤول غير منتخب وكل مسؤول هو رجل مناسب في مكان مناسب باجماع اغلب العاملين معه كما هو الحال في السلطة التشريعية التي ستكون من صفوة شريفة وقديرة من ابناء الشعب العراقي تعمل بتفان واخلاص من اجل سعادته ورخائه ان شاء الله.
أ.د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
لكم الله يـا فـقراء العراق
لم يترك العثمانيون العراق بعد ان حكموه ( بل خربوه لقرون عدة ) إلا أرضاً يبابا فبعد ان كان من أرقى بقاع العالم في عهد العباسيين أقتصاداً وأجتماعاً وإن شاب مدة حكمهم ما شابه من مظالم وضعف وهوان ولكنها كانت فترات قصيرة غالباً ما تزول، المهم إننا بعد أن ذقنا ذرعاً بالعثمانيين والظلم الذي شهدناه منهم توافقنا ( تآمرنا ) مع الانكليز لننال حريتنا ونرقي اقتصادنا ومجتمعنا وإذ بنا نقع في فخ استعمار اشد ظلم من سابقه واشد بشاعة وان صبر إبائنا وأجدادنا أربعة قرون لم يطل صبرهم هذه المرة اكثر من أربعة اعوام فكانت ثورة العشرين التي حققت الحكم الوطني الملكي الدستوري لإرادة العراق وهكذا أستقرت الأمور وخلدت النفوس على امل أن يحقق العراق وشعبه العريق أماله في الحياة الحرة الرغيدة ولكنه لم يحقق هذا إذ استحوذت بريطانيا على جل خبراته وتركت له الفتات ولم تستطع الحكومات التي توالت على إدارة البلاد على عمل شيء يذكر لرفع مستوى معيشة الشعب الفقير بل سيطر على اقتصاده حفنة من الإقطاعيين والبرجوازيين الذين لو كشفت عن سجلات التسجيل العقاري في ذلك الزمان لوجدت جميع أراضي العراق ملكاً صرفاً بأسمائهم، أما السوق فيتحكم به هذا التاجر المحسوب على هذه المسؤول او ذاك أما الفقراء وهم جل أهل العراق فلم يحصلوا الا على بعض الفتات، الفلاح مغتصب حقه من الإقطاع والعامل كان أجره اليومي ربع دينار أي لا يساوي دولاراً اما الموظف الذي كان يتقاضى بعض وريقات فهو مهدد بالإقصاء بفضل ذيل هذا القانون او ذاك وبعد أن توافرت الأموال لحكومة العراق في السنوات الأخيرة من الحكم الملكي أنفقت أغلبها على البنى التحتية للبلاد والتي زادت من غنى الأغنياء وفقر الفقراء . في فترة الحكم الجمهوري وتولي زعيم الثورة الزمام فانه اكثر من الكلام عن حبه للشعب والفقراء فكان ما أوحى به لأجهزة الحكم وما تصدره من أحكام أن تشمل الفقراء بأكثر ما يمكن من العطاء فحصل اغلب الفلاحين على قطعة الأرض التي قرت بها عيونهم وناموا أما العامل الذي نظم النقابات فزاد أجره وكذلك الموظف أقر له قانون محكم وتحسنت أحواله وزاد احترامه وحتى لا يفهم من الزعيم انه شيوعي الأفكار لم ينادي بمصادرة ثروة الأغنياء وتوزيعها على الفقراء بل أطلق شعار إننا سنرفع مستوى الفقراء ليكون بمستوى الأغنياء ولا أعلم كيف فكر بهذا الشعار لم نسمع من ينادي بمثله أي ثائر مغوار ولكنه كان يذكره بإصرار وأستمر هذا الزعيم الهمام بالدعوة لأنصاف الفقراء ولكنه قتل مما حال دون تحقيق هذا الشعار ولم نر أكان من الممكن تحقيقه أم أنه مجرد خيال بخيال . في فترة حكم الأخوين ساد العراق ركود في السياسة والاقتصاد وسلمت الأمور في سنة 1968 الى حزب شعاره الوحدة الحرية والاشتراكية فأمم النفط بعد مفاوضات ومناورات وتحقق حلم العراق بعودة الثروات لأبنائه الشرفاء وابتهج الجميع بما سمعوا من وعد وعهد سعيد ولم يكن ذلك عنهم ببعيد إذ اتخذت الإجراءات وعين العاطلون من حملة الشهادات في العلوم والفنون وباشرنا مرة أخرى في تشييد البنى التحتية ومحو ألامية واختفت البطالة وزادت العاطلة بما أصدرته وزارة التخطيط من تعيينات إلزامية في جهاز الإدارة والتحكم ومع زيادة الحاجة لليد العاملة بفضل تنمية البعث الانفجارية زحفت الينا اليد العاملة من أبناء الدول المجاورة والبعيدة فكان بلدنا مصدر رزق ملايين العمال والخبراء من كل حدب وصوب وعملوا أو انتجوا، المهم هو حصلوا ( أو حصدوا ) المليارات من الدولارات ولم يكن في تلك الفترة من يعارض او يستاء من هذا الزحف الذي هو كالجراد الى بلاد العراق لأن الجميع لديهم عمل او مرتب هنا وهناك من هذه المنشأة او تلك وأستمر الحال على هذا المنوال حتى زحفت الجيوش التي تبغي دك ايران واحتلال طهران فوقعنا في فخ الأمريكان فكانت النار التي أحرقت المليار بعد المليار وشربت من الدم أنهار والتي لم تنته الا بقدرة سيد الأنام، المهم أفلس العراق وغادرت أسراب الجرد وعاد أبناء العراق بعد ان أغمدت الحرب ليجدوه خراباً بعد أن عمته المآتم والأحزان خراب أعمال ولا أرزاق ولكن زاد الأغنياء غنا وثراء وزاد الفقر فقراً وخواء واستمر هذا الحال حتى جاء الحصار وصار ما صار وامتلأت بطون الحيتان بالمال السحت الحرام بحرمان الفقراء التي لولا بطاقة التموين ومكارم القائد العظيم بزيادتها كيلو او كيلوين لكانوا دون الموت قاب قوسين او أقل وهكذا صبر الفقراء في هذا البلد العظيم التاريخ والثروات وأنتظروا الفرج، وما أن حل الفرج وسقط الصنم أنتظر الفقراء في هذه الارض المعطاء وما سيحلون عليه من نعم ومغانم ومضت الشهور والسنون وإذ بالمسؤولين يحسنون التصريح ولا يجيدون التفعيل لشعاراتهم التي ملئوا بها الدنيا من الضجيج وان كانوا يفكرون بكل شفير ونقير ولكنهم نسوا الفقير الذي لم يبق لديه شيء لشروى نقير ولم يزل نائماً على حصير فكفوا يا مسؤولين بالانشغال في كل ما هو غير جدير وأهتموا بحال الفقراء أن هذا البلد الذي يملك من الثروات الكثيرة والتي صار نهبها أهتمام كل حقير من أبنائه او غريب فان أنجزتم أيها المسؤولون كل ما كنتم به منشغلين فعودوا – يرحمكم الله – يا من تجلسون على كراسي الحكم او أليها قادمون ( لاهثون ) عودوا الى ضمائركم وأهتموا بالفقير من ابناء هذا البلد العريق، وختاماً أقول لكم يا اخواني الفقراء لكم الله يافقراء العراق .
أ.د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
طالب الولاية لا يُولى
ونحن في الظروف السياسية والاقتصادية والإدارية التي يعيشها شعب العراق تدفعنا هذه الظروف السيئة التي طال أمدها وطال صبرنا عليها حتى سيكون صبر أيوب خمسة وثلاثون عاماً من الحكم الدكتاتوري وما سبقه من ظروف غير مستقرة ثم ما لحقنا من مآسي وكوارث بدءاً من الحرب التي شنتها أمريكا وحلفائها التي شعارها إسقاط رئيس النظام السابق وحقيقتها التهام ما تبقى من ثروات وخيرات هذا البلد وفاتحة لاستعمار جديد للمنطقة كلها عربية كانت أم إسلامية والتهام كل خيراتها فأن كان الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية فالرأسمالية الأمريكية الحديثة أعلى مراحل الاستعمار الحديث وان كانت مبرقعة بشعارات الديمقراطية والحرية الزائفة التي أضحت لا تنطلي على احد . أرى أني أسهبت في مقدمتي هذه في التطرق الى الأمور السياسية ونسيت موضوع الخاطرة الا أنها في الحقيقة ذات صلة وثيقة بها ذلك لأني خدمت في الدولة العراقية منذ نصف قرن تقريباً وقرأت معظم قوانينها وأنظمتها درست جزء منها ودرستها وعرفت واطلعت على كفايات جميع رؤساء وزاراتها وكذلك عرفنا أغلب مسؤوليها ممن كانوا بدرجات خاصة أو عامة وأجزم أن أغلبهم كان ( حتى انقلاب حزب البعث وأستلامه السلطة ) رجلاً مناسباً في مكان مناسب سواء من حيث الخبرة العلمية او من حيث الشهادة العلمية، إلا ان منذ ذلك الانقلاب ومنذ أيامه الاولى حتى بدأنا نرى العجب العجاب في تسليم المناصب والإدارات وإذا ضربنا صفحاً عن القياديين واغلب الوزراء منهم الذين لم يكونوا أصحاب خبرة او معرفة او دراسة في أدارة الحكم بل كانت لديهم مرتباتهم الحزبية لو أتينا الى من ولوا الأمور الإدارية فقد بدأ الشطط والفوضى في هذا الجانب فأسندت وظائف كثيرة هامة وحساسة لحزبين او متملقين منافقين غير مناسبين لها فحصل أضرار كبيرة في كفاية الاداء لجهاز الدولة بسبب اداء هؤلاء غير المناسبين لوظائفهم، وإذا كان هذا النهج قد برر لهذا السبب او ذلك او لرغبة السلطة والحزب لتثبيت الأقدام وتعزيز سلطة الحزب كهدف سريع فأنها في الحقيقة لم تكن الا مقدمة لخراب الدولة وإدارتها بعد هذا الذي حصل في السنة الأولى او الثانية من قيام الانقلاب ( او عمر الثورة كما كانوا يقولون ) ماذا حصل وكيف أشغلت المناصب والوظائف في دولة فبدأت تتسع أعمالها ومهماتها السياسية والعسكرية والاقتصادية فبعد أن تربع القياديون على أهمها بدء البحث عن الولاء للحزب والثورة كهدف أساسي لكسب أوسع الجماهير المؤيدة او المصفقة وبعد أن انتهجت سياسة الترهيب للمعارضين والترغيب للمؤيدين بدأت تشعر هذه الفئة الأخيرة والتي أغلبها كان طالباً للولاية أن لا مناص من أن تغير جلدتها وتتظاهر ( أو تسجل الانتماء للحزب ) في سبيل الحصول على المناصب ثم بطبيعة الحال المكاسب فسارع كل من هب ودب من أنصاف المتعلمين وأنصاف المثقفين والمستعدين لتبني فكر او مبدأ في سبيل الحصول على المنافع وأستمر الحال على هذا المنوال لفترة طويلة من الزمان وبدء التدهور في كفاية الأداء في منشآت الإنتاج منها والخدمات وبعد تدهور أوضاع السياسة والاقتصاد كان من السهل على أغلب هؤلاء قبول التردي في الأوضاع وضياع الأموال وتدهور كفاية الأداء وغض الطرف عن الرشاوى والاختلاسات والهدر والتبذير في الأموال ما داموا هم في مناصب وادارات يكسبوا منها كل ما هو راغب فيه ويطمع ومع لجوء قائد النظام بالإغداق عليهم بالأوسمة والأنواط والأموال تحولت منشآت البلد وإدارته الى ارث او ملك صرف ( طابو ) لهم لا يدخلها أي ذو بصيرة وعلم الا ما ندر فعم الفساد حتى تآكل جهاز الدولة بسبب هذا الانحراف فعاث الفساد حتى أصبح كآفة العث في الثياب او الارضة في الاشجار تهوى حال هبوب اخف الرياح وهذا ما حدث لدولتنا في التاسع من نيسان فحلت الهزيمة وخارت العزيمة وسلمت الامور الى اللصوص وقطاع الطرق ممن أكرمهم القائد الهمام بالعفو المرام فعبثوا في ارض العراق واستولوا على ما تبقى من غال ونفيس ولم يتصدَ لهم الرفاق ولا أجهزة الأمن والمخابرات لأن الأوامر تقضي ان تحرق الأموال ويسحق العراق بعد هذا العرض لواقع الحال مما مضى من الزمان فما الذي حصل ايها الإخوان بعد أن احتلنا الأمريكان وأتباعهم من إنكليز وطليان ومجموعة من الخرفان لملموا من مختلف البلدان، الذي حدث يا إخوان ان جمع كبير من طالبي الولاية بدؤا الهرولة صوب بريمر الأمريكان عارضاً الخدمة بأبخس الاثمان آملاً في الحصول لاحقاً على المغانم والاطيان وتلقفهم الأمريكان ووضعوهم في مناصب لا علم لهم فيها ولا مكان فكانوا أشخاصاً غير مناسبين لمناصب غير مناسبة ولم تمض الا فترة شهور من الزمان حتى بدأت الفضائح تزكم الأنوف وتصم الأذان وبدأت الحقائق تعلن في كل مكان عن نهب ما كان بالإمكان ما دام هناك الأمان تحت مضلة الأمريكان وسنستمر على هذا الحال حتى تجري الانتخابات بقدرة سيد الأنام ويعم الوئام وتتولى زمام الأمور خيرة الأزلام هدفها ومبدئها خير الناس من نفع الناس وعند ذاك سيستلم الأمور مجموعة من أصحاب القيم والشهادات هدفها خدمة الناس وليس الركض على المغانم والكسب الحرام وعندها سأذكر الناس بأن ديننا عظيماً في الامر لزكاة النفس ورقابتها وأن نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) كان يحاسب الولاة على أدائهم ولا يستعمل الضعاف منهم وكم كان الخلفاء الراشدين عظاماً وكم كان الخليفة عمر بن الخطاب رائعاً في تنظيمه ( تخطيطه ) لسياسة الاقتصاد في الإسلام وكم كان عظيماً في تنظيمه لإدارة أموال المسلمين ومحاسبتها . وأختم خاطرتي هذه بعنوانها قول الخليفة عمر بن الخطاب ( رض ) :- (( طالب الولاية لا يولى ))
أ.د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
فتش عن الاختلاسات في حرائق نيجيريا
لطالما تمتعت كثيرا في قراءتي لفترة طويلة في النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي في قراءة مجلة الإداري اللبنانية التي كانت تنشر مواضيع اقتصادية ومالية وإدارية مختلفة متنوعة ومختلفة منها المؤلفة من قبل متخصصين لبنانيين أو عرب او مترجمة من مجلات وكتب من مختلف إنحاء العالم واغلب كتابها أساتذة وخبراء متخصصين في تلك الصحيفة حيث بدء ما ذكرته تلك الصحيفة بنشر ما يعد كدليل على ظهور الفساد المالي في نيجيريا تحت عنوان فتش عن الاختلاسات في حرائق نيجيريا فيقول المقال بان نيجيريا بلد نفطي وبدأت تنهال عليه الأموال في منتصف السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي الأموال النفطية الغزيرة حالها حال جميع البلدان النفطية وحيث أن حكومة نيجيريا أصبحت لديها أموال طائلة فباشرت حكومة نيجيريا بإعداد الخطط للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ورصدت لها أموال كثيرة وبدأت تنفيذها لمشاريع البناء والإنشاء والصناعة والزراعة، لكن الذي حصل حال مباشرة هذه الحكومة تنفيذها حتى باشر عدد غير قليل من مسوؤليها عن تشمير سواعدهم وباشروا بالاختلاسات والتواطئات والاتفاقات مباشرة وغير مباشرة، وحيث ان الدولة لديها أيضا أجهزة محاسبة ورقابة فبدأت هذه الاختلاسات والسرقات تنكشف تباعا الواحدة تلو الأخرى ولكن هؤلاء المسوؤلين المختلسين والسراق لم يكونوا قليلي المعرفة في كيفية طمس معالم الجريمة ووثائق الإدانة، حتى باشروا بحرق دوائرهم ومكاتبهم وكل ما يتعلق بسرقاتهم واختلاساتهم حتى لا يبقوا اثر يدينهم على جرائمهم، وكانت تلك الحرائق ليست بقليل بل كثيرة وفي دوائر ومؤسسات مختلفة في نيجيريا مما عده الكاتب دليلا دافعا على شيوع الفساد المالي في نيجيريا تذكرت ذلك المقال بعد ان بدأت الأمور تسير في عراقنا على نفس النحو الذي جرى في نيجيريا قبل خمس وعشرون عاما وان كانت في عراقنا قليلة العدد إلا إنها خطيرة الأثر كان يحصل ذلك في وزارات أو دوائر ذات علاقة هامة ومؤثرة في الاقتصاد الوطني، وان كانت التحقيقات لم تكشف بعد عن سببها ومستواها وأثرها، فان الأمر يقتضي على الحكومة والوزارات ودوائر الرقابة المالية والتفتيش في كل وزارة أو دائرة مالية الحذر من تكرار الحدث وعليها التحوط على مستنداتها ووثائقها بمختلف انواع التحوط التقليدية المتعارف عليها وكذلك الحديثة الالكترونية وغيرها لحمايتها ليس فقط من الحريق بل السرقة والاخفاء والإتلاف اعتقد إن بعد الذي حصل سوف لن يكون هنالك عذرا لأي مسؤول ان تكرر في الجهة التي يتولى مسؤوليتها مثل هذا الحدث.
أ.د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
في الحليب معرفش , في النطاح يا سلام
في احد الأيام روى لي صديق حكاية أضحكتني كثيراً وبقت في ذاكرتي كمثل أشبهه بكثير من الظواهر التي تنطبق عليها تلك الحكاية الظريفة, كان صديقي هذا وبسبب تقاعده من الوظيفة بعد خدمة طويلة خرج منها خالي الوفاض بتقاعد زهيد, يمارس الأعمال الحرة المختلفة تجارية منها وعقارية وزراعية , فكر في احد الأيام بشراء بقرة لإضافتها إلى قطيع الأبقار والأغنام التي كانت في مزرعته الخاصة, وعند نزوله إلى السوق الذي تباع وتشترى فيه الأبقار عثر على ضالته بقرة يعرضها للبيع مزارع مصري ممن عملوا في بلدنا خلال النصف الثاني من السبعينيات من القرن الماضي والنصف الأول من الثمانينيات منه, قال صديقي: أعجبتني جداً تلك البقرة, فسألت صاحبها أخونا المصري, كيف هي بقرتك يا معلم؟ أجابني فوراً: (بقرتي في الحليب معرفش ولكن في النطاح يا سلام), ضحكت معه كثيراً على إجابة المعلم المصري السريعة والخفيفة كخفة دم أخواننا المصريين. تمر الأيام والسنون على هذه الحكاية وأنا أراها واقعاً حقيقياً على كثير من الناس في بلادنا وخصوصاً في هذه الأيام فهم في الحليب منعرفش ولكن في النطاح يا سلام, أعود لأقول وبصورة أوضح إن كثيراً من الناس في بلدنا هذه الأيام يجيد الكلام وينمقه ولكنه لا يفعل شيئـاً ليؤكده كواقع حال هو قادر على تحقيقه, كثير من الناس كثيرو التبجح بإمكانيتهم العظيمة وقدرتهم الفائقة على تحقيق ما لم تستطع تحقيقه الأوائل, وعند استلامه دفة الأمور تجده غير قادر على فعل أي شيء (ان لم يخيط ويخربط كما يقول المثل العراقي), كثير من الناس لا ينفع ولا يفيد ولا يؤدي عملاً صالحاً ولكنه في النفاق والشغب يا سلام, كثير من الناس لدينا في هذه الأيام أصبح عندهم الإجرام والاعتداء والإيذاء بأية صورة كانت دينه وديدنه لا رحمة ولا شفقة في قلبه أو دماغه أو لسانه وكثير كثير من الناس لا أحب ان أسهب واسرد الأمثلة عليهم ولكنهم كبقرة صاحبنا المصري في الحليب ما ينفعوش ولكنهم في النطاح يا رب سترك.
أ.د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي ستوتة
أثار استغرابي وعجبي مما شاهدته في بعض شاشات التلفزة وما شاهدته في شوارع بغداد خلال الايام الماضية لعربة مشابهة للدراجة البخارية إلا أنها تحتوي على حوض خلفي صغير ذي عجلتين لتكون عجلاتها ثلاث أكثر أمناً من الدراجة البخارية ذات العجلتين فضلاً عن كونها يمكن أن تحمل أثقالاً وبضائع أكثر، وهذه الدراجة التي أفاد منها كثيراً أبناء المحافظات الجنوبية في نقل الافراد ولاسيما في المحلات الضيقة، أو التي لا يمكن دخول السيارات الكبيرة إليها في نقل الأشخاص أو البضائع. ولا اخفي عليك قارئي العزيز باعجابي الشديد بهذه العجلة التي اتوقع سيستورد منها عشرات الآلاف الى العراق؛ كونها سهلة الاستعمال من ناحية إمكانية المرور بها وكونها واسطة نقل مناسبة الأجرة والاهم من ذلك أنها لا تستهلك من الوقود كثيراً وأتوقع على إثرها سيجد العراقيون الحل الأمثل لمشاكلهم في الحل والترحال وحمل الأثقال ، وعند سؤالي لصاحبي اين صنعت وما هي الشركة المصنعة؟ اجابني : لا اعلم ولكنها تسمى أو يطلق عليها ستوتة ولخفتها وسهولة حركتها وجمالها .ضحكت عندها لهذه التسمية وعادت ذاكرتي الى بداية الخمسينيات من القرن الماضي إذ شاع هذا الاسم واشتهر في مدينة الحلة ولا أعلم ان كان قد اشتهر في بقية أنحاء العراق ولكن يبدو الامر كذلك ، وتعود قصة ستوتة في مدينة الحلة إلى عرض إحدى سينماتها الثلاث في ذلك الحين الفيلم المصري الشهير ( عنتر وعبلة ) وبعد نجاح منقطع النظير استمر عرضه في تلك الدار سنة كاملة كما اتذكر، استبدلت هذه الدار فيلمها الشهير (عنتر وعبلة) لانحسار الإقبال عليه وإنشغال مشاهديه بفيلم آخر مصري اسمه (ستوتة). وإني وإن كنت قد شاهدت فيلم (عنتر وعبلة) ولكني لم اشاهد فلم (ستوتة) ولا اعلم لماذا لكن هذا الفيلم الأخير أحدث ضجة كبيرة في تلك المدينة وأثار اهتمام الشباب والاطفال كما شاهدت ذلك في شوارعها وسمعت وسبب ذلك يعود الى أن فيلم (عنتر وعبلة) كان يتميز بمواقف الشجاعة والبطولة والإقدام وحب عبلة العذري ونكات ومواقف شيبوب الطريفة، من ثم جاء فيلم (ستوتة) متميزاً بالرقص والغناء ولا اعلم ماذا كان يتضمن الفيلم أيضاً؛ لأني لم أشاهده، ولكن الحضور من هؤلاء المراهقين والشباب والاطفال أعجبهم الفيلم أشد الإعجاب وانبهروا به أشد الانبهار لا لمواقف الشجاعة والبطولة والإقدام التي تميز بها عنتر ومواقف الحب الطاهر العذري الذي ساد علاقة عبلة بعنتر، ولكن كان الاعجاب بهذا الفيلم لكثرة ما احتواه من رقص وغناء وخلاعة كما سمعت، فما كان من هؤلاء الصبية والاطفال وحال انتهاء كل عرض للفيلم الخروج بـ( هوسة) يرددون فيها الإهزوجة الاتية: (عنتر وعبلة سيسوا هلو بيج ستوتة) فكانت هذه الاهزوجة مثار ضحك وتعليقات الكبار من أهالي الحلة واصبحت أحد الامثال الشائعة في ذلك الحين. فتذكرت حينها (ستوتة) القديمة تلك وأنا أشاهد ستوتة هذه وقلت في نفسي يبدو أننا بدأنا نعيش زمان ستوتة التي قهرت عنتر وعبلة وسيستهم في شط الحلة، فإن بدا ترد ألينا الكثير من العجلات من التي يطلق عليها شعبياً ستوتة (ولا اعلم اسمها او ماركتها الحقيقية أو بلد الصنع) والتي ستقهر المارسيدس ، والاوبل و الـ BMW وكذلك السنّي، والتيوتا والشوفرليت وغيرها من السيارات الفارهة التي كنا نتمناها فلم أر في ذلك مصيبة بل قد يكون فيه الحل لمشكلة ولكن المصيبة الأكبر هو في اختفاء عنتر وعبلة من جميع ميادين الحياة، فلا شجاعة ولا إقدام ولا وفاء ولا اداء في أي من المجالات ولا أود الإسهاب وإنما كما قلت في جميع ميادين الحياة اختفى العناتر واختفت العبلات وسادت الستوتات ليس في مجال النقل والترحال ولكن في كل مكان ومجال ولا انسى تلك الايام التي ردد فيها شباب واطفال مدينة الحلة تلك الاهزوجة وأرى أنها عادت وأصبح الوقت مناسباً وملائماً لاطلاقها مرة اخرى على ما ذكرنا في سالف الكلام: عنتر وعبلة سيسوا هلو بيج ستوتة
أ.د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
الـدرهم والدينــار والـفـلس والمـلـيار
حتى بدايات الخمسينات من القرن الماضي لم يكن العراق قد شهد أهتماماً بلعبة كرة القدم ولم تكن هناك مباريات دولية هامة تجري داخله وخارجه، ولكن في سنة 1953 ( كما أتذكر ) كانت مباراة منتخب الجيش العراقي ومنتخب الجيش المصري كانت النتيجة التعادل حتى دقيقتها الأخيرة حيث أحرز لاعب المنتخب المصري حنفي بسطان الهدف الثالث لفريقه وكسر التعادل بفوز المنتخب المصري، ولكن تلك المباراة تركت أثارها العميقة في تطور لعبة كرة القدم واهتمام الشباب العراقي خصوصاً والشعب العراقي عموماً بتلك اللعبة، واستمرت الفرق والمنتخبات العراقية التي قادها المدرب المرحوم عادل بشير باللعب هنا وهناك داخل العراق وخارجه ولكن هذه الفرق كانت أهم ما يميزها هو وجود لاعبين أكفاء يتمتعون بمهارات فردية عالية جداً وفي مقدمتهم عمو بابا الذي بزغ نجمه في تلك اللعبة الشهيرة التي ذكرتها في مقدمتي هذه وغيره كيورا وجليل شهاب واديسون وكوركيس اسماعيل وجميل عباس ( جمولي ) وقاسم زوية وغيرهم الكثير، ولكن أهم ما يعاب عليه عدم إتقانه اللعب الجماعي كفريق واحد وعدم إتقانه تطبيق خطة لعب جيدة من بداية اللعب حتى نهايته، لذلك فأن حقق فوزاً فذلك بفضل ما يتميز به من مهارات فردية وان اخفق بخسارة ( وغالباً ما كان يحدث ذلك أمام الفرق القوية المدربة والتي تجيد تطبيق الخطط بصورة دقيقة جداً ) فان سبب ذلك هو عدم لعبه الجماعي وعدم تطبيقه خطة لعب جديدة، وفي عام 1963 سافر منتخبنا الى مصر ولعب مباراة انتهت بخسارته الكبيرة أمام المنتخب المصري بثلاثة أهداف لهدف واحد وكانت أسباب الخسارة هي كما ذكرته سلفاً، وعندما سأل المعلق الرياضي بجريدة الأهرام الملقب جهينة ( وهو احد لاعبي المنتخبات المصرية سابقاً ) عن رأيه في المنتخب العراقي قال انه يصرف دينار ليحصل على درهم، وقد كان دقيقاً ومركزاً في هذا الوصف المختصر، لأن فرقنا وحتى الوقت الحاضر ( كما أعتقد ) ما زالت على هذا الحال ولم يتطور لعبها بما يقتضي ان تكون عليه الفرق المتقدمة ليكون لعبها كفريق متكامل يلعب ويؤدي خططاً كفوءة ومتكاملة شاملة كذلك أعتقد ان تقويم جهينة ما يزال قائماً عليها وهي ما زالت تصرف ديناراً وتحصل على درهم . تذكرت حالة فرق كرة القدم هذا وسألت نفسي ترى أليس انها أفضل حالاً من الكثير الكثير مما جرى ويجري علينا أليس هي أفضل بكثير مما حصل في منشأتنا، أليس هي أفضل بكثير مما حصل في بلدنا في عسكره، في اقتصاده، في أمواله، في إدارته، في كل شيء وهي ما زالت تصرف الدينار لتحصل على درهم كما قالها جهينة سنة 1963، فان جميع ما حصل في بلدنا وما يجري حتى الان وكأننا نصرف المليار وليس الدينار لنحصل على الفلس وليس الدرهم، فأسفاً على جيش صرفت عليه مئات المليارات ولم نحصل منه على شيء يساوي فلساً وأسفاً على اقتصاد كان يمكن ان يكون من أفضل أقتصادات المنطقة وأصبح لا يساوي فلساً وأسفاً على أموال كانت فائضة بعشرات المليارات ولم يبق منها فلساً، وعجباً عجباً على الكثير الكثير الذي كان أثمن من المليارات وأضحت لا تساوي الفلس، وعجباً على نفوس كانت أغلى من المليارات وأضحت لا تساوي الفلس .
أ.د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
رأس الخـيط
لا يختلف أثنان في أن للأمثال والقصص الشعبية الكثير من الحكم والعبر الهادفة او المعبرة عن الكثير من المواقف الشجاعة أو المتخاذلة، والمواعظ الهادفة او الساخرة من المساوئ او السلبيات الكثيرة التي تحدث في مختلف مجالات الحياة، كما ان لأغلب القصص والحكايات معانيها البليغة سواء أقصت بأسلوب حزين أم مضحك وعلى مدى نصف قرن من الزمن تعود الى ذاكرتي ذلك المثل الشعبي الشهير – المنسي حالياً – ولكنه ينطبق على الكثير من المواقف والأشخاص الذين تسلموا زمام الأمور غير قادرين عليه او يوكل لهم ما لا طاقة لهم عليه للحكم على كثير من الأمور وهم ما زالوا لا في عمر ولا علم ولا خبرة فيؤدي توليهم لمقاليد هذه الأمور أن يختلط الحابل بالنابل فلا حكمة ولا فائدة لإجراءاتهم وقراراتهم إن لم تكن عودة الى الوراء او تكون – خيط وخرابيط – فنحتاج الى تقويم ما تؤديه من اعوجاج وخراب الى مئات ان لم تكن الآلاف من الإجراءات والقرارات وهي وإن قومت فستكون بعد فوات الأوان او كما يقول المثل أيضاً بعد خراب البصرة . نعود الى قصة مثلنا الذي نصه الكامل يقول :- ( رأس الخيط بيد الزعاطيط ” الاطفال ” ) إذ يحكى أن جمهرة من الوجهاء والعارفين بأمور الدنيا والدين اعتادوا الحضور في مجلس أحدهم للتحدث بشتى الأمور التي يهتم بها الحضور، ان احدهم ممن اعتاد التحدث في هذا المجلس دائماً، كان يعتقد بعض الحضور أن في بعض أحاديثه عدم الصحة والدقة، ولما ضاقوا ذرعاً بذلك اتفقوا على مصارحته بهذا الامر وبيان أخطائه، وفي احد الايام اجتمعوا اليه وأبلغوه بما يعتقدون وصارحوه بأخطائه من احاديث ومواعظ التي كان يلقيها عليهم في المجلس، ولكنه لم يوافقهم على ذلك، بل أصر على صحة ودقة كل ما يقوله من موعظة وحكمة، وبين اخذ ورد اتفقوا ووافقهم على رأي أحدهم بأنهم لكي يثبتوا له أخطاءه وينبهونه عليها سوف يقوم احدهم بربط خيط في يده – ولربما في مكان آخر- حينما يتكلم خطأ سوف يسحب ذلك الخيط من قبل أحدهم لينبهه على خطئه في عدم الدقة فيما يقول أو يتكلم، وفي اليوم التالي لإبرام ذلك الاتفاق وحالما أنعقد المجلس وأذن له للحديث فيه قام أحدهم بربط الخيط في المكان المتفق عليه وعندما صعد كرسي التحدث كان قد فات على الجميع الاتفاق على من يمسك الطرف الآخر من الخيط، لذلك تلقفه ( الزعاطيط ) الأطفال الذين اعتادوا الجلوس قريباً من كرسي المتحدث، ولما كان الأطفال على علم بالاتفاق بادروا بسحب الخيط حال بدء المتحدث بالكلام واستمروا على هذا الحال سواء تكلم خطأ أم صحيحاً وبعد مدة من الحديث واستمرار الأطفال بسحب الخيط ، ضاق المتحدث ذرعاً بهذا الحال، فنزل من الكرسي وهو يصيح آمنت بالله بأن كل كلامي غير صحيح لأن رأس الخيط بيد الاطفال ( الزعاطيط ) . أتذكر هذا المثل الشعبي ( الحكاية ) كثيراً كلما أرى او ألمس الكثير مما يقوم به الزعاطيط من أعمال او تصرفات او أجراءات بحكم ما اوكلت اليهم من مسؤوليات ( مسك الخيط من الطرف الاخر ) او ما منحوا من صلاحيات هم ليسوا مؤهلين لها ولا قادرين عليها ولأربعة عقود من الزمان جعلت كل المؤهلين او عباقرة المتحدثين يصرخون – على مضض – لكثرة ما يتبجح به ويدعيه الزعاطيط، ولكثرة ما يتصرفون ويقرون لتخطئه الذين يفقهون ويفهمون، جعلت هؤلاء الآخرين يهرولون وهم يصرخون، اللهم اشهد اننا لا نعرف ولا نفهم لأن ( رأس الخيط بيد الزعاطيط ) .
أ.د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
ألف مرض خطير يصيب الإداري
تعد مجلة (الإداري) اللبنانية من المجلات المرموقة في مجالها, فهي بحق عالية المستوى بما تحتويه من مقالات وبحوث ودراسات ومعلومات في عالم الإدارة الواسع الرحب, وكانت تصلني بانتظام, خلال الأعوام (1985- 1988) وربما كنت الوحيد في العراق الذي تصل إليه هذه المجلة, ومن سوء حظ الإداريين المهنيين والأكاديميين في بلدنا أن هذه المجلة كانت ممنوعة عليهم لأسباب لاشك في إنها تافهة, عملاً بما كانت تفرضه الجهات السائرة في ركب السلطة التسلطية من مقاطعة أو رفض أي مطبوع لا يوافق هواها ومراميها , المهم من ذلك إني قرأت ذات يوم في احد أعدادها مقالاً لكاتب أمريكي بعنوان (مئة مرض خطير يصيب الإداري في الولايات المتحدة الأمريكية) وقد أعجبتني براعة الكاتب في تشخيصه المشاكل التي يعانيها الإداري في عمله , وهذا ما يظهر تأثيره بصورة مباشرة في حياته الشخصية أو العائلية أو في علاقاته عموماً , فضلاً عن تشعبات الوظيفة الإدارية وذكر الكاتب أنواعا كثيرة من الأمراض الجسدية كالسكر والضغط وأمراض القلب بانواعها والمعدة والمفاصل وغيرها الكثير, ثم يعود ليذكر الأمراض النفسية والاجتماعية الشائعة كالكآبة والجنون, ثم يقول ان هناك مئة مرض خطير قد يصيب الإداري , منها ما عرف, ومنها ما لم يعرف وذلك بسبب مشاكل العمل الإداري وضغوطه وانفعالاته وانتهت بي قراءة ذلك المقال الى استفهام كبير قد يشترك معي كل اداريي العراق وربما بلدان العالم الثالث في طرحه, مفاده ان كان عدد الأمراض التي تصيب الإداري في الولايات المتحدة الأمريكية مئة , فكم عدد الامراض التي تصيب الإداري في بلداننا ؟ مئة؟ مئتان؟ نعم, وقد يكون أكثر من ذلك. وتمر الأيام والسنون على هذا البلد المتوضئ بدمائه القائم على لحن أنينه , بعدما أثقلته الهموم والمشاكل , من حروب ودكتاتورية وتسلط, واذا بنا نباشر ببناء عراق جديد بنظام جديد ومفهـوم جديـد واقتصـاد جديد, واستبـشرنا خيـرًا وقـلنا إن الأعمال في دوائـر الدولـة ستكون أفضل مما كانت عليه وأيسر, وان اللون الداكن الذي كانت تصطبغ به إدارتنا سيكون في قابل الأيام وردياً, ولكن ..؟ بعد ان كلفت بإدارة دائرة في إحدى الوزارات تذكرت ذلك المقال الذي قرأته في مجلة الإداري, وأدركت إني كنت في الثمانينات متفائلاً حين توقعت ان مئتي مرض خطير قد تصيب الإداري في العراق, وعليّ ان اجعلها ألف مرض ليكون توقعي صحيحاً ينطبق على الإداري في هذا الزمان.
أ.د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
الحجر في أرضه ثقيل
في احد الأيام وفي بلد غريب حصل موقف متأزم بين احد الأصدقاء من إخواننا الكورد من ابناء إقليم كردستان وبين احد أبناء ذلك البلد الغريب، وبتدخلي وبتوفيقي بين الاثنين أنهيت المشكلة التي حصلت بينهما، وفي نهاية حديثي مع صديقي الكوردي رجوته أن ينهي الموضوع وأن كان ذلك الشخص من أبناء البلد الغريب هو المتجاوز، لان مثلنا في العراق يقول (ياغريب كن أديب) وأضفت إليه: وان كنت على حق، وافق على كلامي، وأضاف إليه أن هناك مثلاً في كردستان يقول (الحجر في مكانه ثقيل) وفعلاً نحن هنا خفاف، لسنا ثقالا كما لو كنا في بلدنا . انتهى الأمر ولكني على الرغم من مرور خمس وثلاثين سنة على ذلك الموقف، وعلى سماعي لذلك المثل الكردي الجميل، وكلما أتأمل ما يدور ويحصل في بلدنا أتذكر ذلك المثل، فما مر وما يمر في بلادنا من أحداث وظروف دفعت بالكثير، وليس القليل من أبناء شعبنا على السفر المؤقت أو الهجرة المؤقتة، حتى إن فكر بأن يهاجر إلى الأبد، ما أن يجتاز الحدود ويعبر إلى الجهة أو البلد الآخر حتى يبدأ يحس بنفسه خفيفاً في بلد الغربة، وليس ثقيلاً كما هو الحال عليه في بلده ومدينته ومحلته وشارعه وبيته وماضيه وذكرياته وحاضره وأفراحه أو آلامه حتى يبدأ الحنين والبحث عن كل صغيرة أو كبيرة تخص بلده ويلعن الظروف والأيام والأسباب التي جعلته يغادر بلده وبيته، حتى ان كان من طين أو كوخ، لأنه كان ثقيلاً هناك، رافعاً انفه معتزاً بكبريائه وانتمائه إلى وطنه، ولكنه أصبح خفيفاً مرتبطاً مصيره ومستقبله بما تقرره دوائر الأمن أو المخابرات أو الإقامة، ورزقه يتوقف عليه وعلى قرارها ببقائه أو إقامته، وأن حصل على تصريح عمل أو موافقة، فهي لن تكون بدون نوع من الذل أو الامتهان، ولربما لمسؤولي تلك البلدان الحق، فهي تعاني الكثير من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية وارتفاع نسبة البطالة لديها أيضاً، وابن البلد له الحق والأولوية في خيرات بلده . أعود إلى حكمة ومثل اخواننا الكورد، وارى انه يصلح لكل زمان ومكان، وفعلاً الإنسان ثقيل في مكانه أو بلاده، خفيف أن تغرب عنها، وكما يكون الحجر خفيفاً إن رفع من مكانه ويمكن ألقاؤه في أي مكان آخر، فإن الإنسان يكون خفيفاً إن غادر بلده، ويمكن ألقاؤه خارج حدود البلدان الأخرى … إلى مصير مجهول لا يعلمه إلا الله، لذلك أرى أن من الأفضل لأبنائنا العراقيين أن يبقوا ثقالاً في بلدهم، وأن لا يكونوا خفافاً خارجه، مهما كانت الظروف، هجرة البلد أو تركه أمر مرّ (أو علقم لم يحصل إلا لتفادي الأمرّ منه، أو هو الكي علاج من اعيى الاطباء) أما ترك البلد لأسباب واهية أو باطلة أو غير صحيحة أو غير ضرورية والرضا للنفس أن يقال له مهاجر أو لاجئ يستحق العطف والإحسان … إنها في نظري أقسى من الموت .
أ.د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
ما حبيبة إلا الأم وما جميلة إلا بغداد
في منتصف الستينيات من القرن الماضي زار وفد تجاري تركي كبير العراق لزيارة معرض بغداد وعقد اتفاقيات تجارية مع الجانب العراقي, وغالبًا ما يبحث صحفيو أو مراسلو صحفنا المختلفة عن الحصول على حديث أو تصريح من رؤساء هذه الوفود على أسئلة ما ليقدمها لصحيفته لإفادة قارئيها و لحشو سطور فيها, توجه احدهم إلى كبير الوفد بأسئلة شتى أجاب عليها بدقة كبيرة, إلا إن أهم الأسئلة وأخرها التي كانت من ذلك اللقاء هو سؤال الصحفي لرئيس ذلك الوفد (كيف وجدت بغداد؟) أجابه رئيس الوفد: لدينا في تركيا مثل يقول (ما حبيبة إلا الأم وما جميلة إلا بغداد) هكذا أنهى واختزل الإجابة على هذا السؤال من دون سرد أو إسهاب ولا اعتقد أن هناك ابلغ من هذه الإجابة في حب الأم التي أعزتها وكرمتها الأديان جميعًا وفي مقدمتها وأكثرها ديننا الإسلامي وما ذكره عنها في القران الكريم ولا أحدا يخالف هذا الجزء من هذا المثل التركي البديع. أعود إلى الشطر الثاني من المثال وهو(ما جميلة إلا بغداد) وهو قد جانب الصواب تماماً, فبغداد منذ أن بناها الخليفة العباسي المنصور قبلة الشرق ومنارة العلم والأدب والتجارة, هي بغداد الحبيبة الجميلة التي يظل عبقها يُملأ الصدور ويزكي النفوس, هي بغداد على الرغم من كل ما أصابها طيلة قرون وقرون وهي وان سقطت عشرين مرة والأخيرة الواحد والعشرين تبقى هي بغداد الساحرة بجمالها رغم خرابها, زكية انسامها رغم حرائقها والعبث الذي عاث في أرجائها, عظيمة هي رغم ما خطط لانحطاطها , جميلة هي رغم ما شوه وجهها فيا بغداد صبراً فستعودين أنت الساحرة التي أحبها كل من عاش فيها أو زارها بسرك السرمدي العجيب ستبقين منارة العالم في العلم والأدب والجمال رغم كل ما يخطط لدمارك وفنائك وصدق المثل التركي.
ما حبيبة إلا الأم وما جميلة إلا بغداد
أ.د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي نعيش بدون خبز ولا نعيش بدون جامعة
منذ تعرفي لبعض الزملاء من الطلبة الاكراد في دراستي الجامعية الاولى في كلية الادارة والاقتصاد في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات وأنا أكنّ لهم الاحترام الكبير ليس لاننا عراقيون فقط بل لأنهم طيبون وبسطاء ومتسامحون جميعهم مؤدبون، وعند سماعي لزعيمهم الملا مصطفى البرزاني في سنة 1959 في احتفال جماهيري في ساحة الكشافة خطبته الثورية القصيرة التي لم تغب عن ذاكرتي أبداً، كما وكان عصر ذلك اليوم في ايام ايلول سنة 1961 يوماً كئيباً في حياتي لم أنسه أبداً لقد كان بدءاً لحرب ظالمة بدأها عبد الكريم قاسم على شعبنا الكردي التي كانت واحدة من أخطائه التي نساها الجميع لانشغالهم في عد نجاحاته فقط، وكانت تلك الحرب فاتحة لحرب طويلة استمرت خمساً وثلاثين عاماً أحرقت الزرع والضرع والأهم منها البشر ولو وظفت حكومتنا المركزية الدكتاتورية ما انفقته من اموال على التنمية بدلاً من محاربة وإبادة شعبنا الكردي لحولت كردستان الى أجمل بقعة على الأرض وأفضل منطقة في الشرق الاوسط ولربما الكثير من دول العالم ، فجمال طبيعتها وعلو جبالها وغزارة أمطارها وثلوجها وطبيعة أجوائها أفضل مما شاهدت في الكثير من الدول العربية والاوربية التي زرتها أو درست فيها. تدور السنون والحرب والحصار لم ينقطعا عن أخواننا الاكراد لا بل كنا نحن الممنوعين عن شم عبق شمالنا الجميل وأبعدنا عنه مرغمين غير راضين فكم كانت تلك السنين ظالمة حالكة سوداء ندعو الله أن لا تعود أبداً، فقد ظلم شعبنا الكردي من دون ذنب ولا مبرر من وراء نزوات بل جنون حكام متغطرسين سلطوا أنفسهم على رقاب الشعب العراقي واذاقوه – ما لا يعرفه تأريخ البشرية جمعاء – سوء العذاب والذل والهوان. بعد انهيار ذلك النظام بشهرين او ثلاثة أشهر طلبت مني جامعة صلاح الدين في أربيل زيارتها لمناقشة أحد طلبة الدكتوراه، فرحبت بذلك ، ذهبنا في اليوم المحدد الى اربيل غير آبه بنصائح الأصدقاء بخطورة الطريق او الظروف الامنية، وعند وصولنا الى كلية الادارة والاقتصاد – في تلك الجامعة في صباح اليوم التالي حضر جميع تدريسي القسم رجالاً ونساءً للسلام والترحيب بنا فكان ترحيبهم احتفالاً وليس سلاماً عابراً . وأكثر ما أثر في نفسي ما ذكرته إحدى التدريسيات كلمات ليست عابرة بل صادقة ” اننا يا أساتذة كنّا نحلم برؤياكم” شكرت الله الذي أنهى تلك السنين الغابرة وأعاننا على ان نلتقي بإخواننا وأخواتنا بعد هذه السنين الحافلة بالالام والاحزان والخراب والدمار، أنهينا المهمة وسعدنا في الوقت نفسه برؤية شمالنا الحبيب ومصايفه والأهم شعبه. مضت الايام وعادت الكلية والجامعة وطلبت منا الاستمرار بالتعاون معها ولم نتردد لحظة أنا وزميل لي بإبداء الموافقة وباشرنا بالتدريس عندهم اسبوعياً في برنامج دراسة الماجستير والدكتوراه . وفي احد الايام وعند خروجنا من مبنى الكلية لاحظت لوحة مرفوعة في صالة مدخل الكلية مكتوبة بعبارات كردية كتب في نهايتها ” مسعود البرزاني” كنت في حينها لا أجيد القراءة والكتابة باللغة الكردية – مع الأسف – طلبت من طلبتي وهم جميعاً من أولادنا الاكراد أن يترجموا ما قاله الأخ مسعود البرزاني فقالوا انه يقول: (( نعيش بدون خبز ولا نعيش بدون جامعة)) أعجبتني هذه الكلمة كثيراً وسأبقى معجباً بها وقلت لطلبتي :- إنه كلام بليغ لابن زعيم عظيم. نعم يجب أن يكون هدف جميع حكوماتنا في العراق فيدرالية كانت أو إقليمية نشر التعليم الجامعي والإكثار من تأسيس الجامعات ليفاد منه جميع طلبة التعليم الثانوي، ويجب أن توفر التخصيصات المالية الكافية لاقامة الجامعات والمعاهد العالية ومراكز البحوث العلمية الكافية، نعم تفشى بيننا الجهل وانتشرت الأمية وتُركت الدراسة، وأصبح الخلل واضحاً في التعليم الجامعي الاولي والعالي، ولكن على الحكومات والمسؤولين أن يؤمنوا بأن للتعليم عموماً والتعليم الجامعي خصوصاً أهمية كبيرة في صقل عقولنا أولاً وتأثيره بشكل مباشر في عملنا وتربية أجيالنا التربية الصحيحة في بناء أساس قويم ومتين فكل المسؤولين تعلّموا ودرسوا في الجامعات وهم أيضاً حريصون على تعلّم أبنائهم وأحفادهم أفضل الاختصاصات وفي أفضل الجامعات والكليات. وهذا حق ، ولكن جميع أبناء الشعب لهم هذا الحق أيضاً، وإن كانت الفرصة واسعة لكثير من الطلبة للحصول على التعليم الجامعي فان على الدولة أن تعمل على تهيأة الفرصة لمن لم يستطيع الدراسة بسبب السنين العجاف وعدم تأسيس الجامعات وتوفير الاموال اللازمة لتجهيزها وعملها بأفضل المستويات واستيعابها لجميع أبناء الشعب المؤهلين لذلك من دون حد او تحديد للاعمار ومن لا يمكنه الدراسة في النهار فيمكن له الدراسة في المساء ومن لا يرغب في الدراسة في الجامعات الحكومية فيمكن أن يدرس في الجامعات الاهلية التي يجب أن يرتفع مستواها الى مستوى الجامعات الحكومية أو يفوق، وهذا الأمر يتطلب أن تخصص الأموال اللازمة للتعليم الابتدائي والاعدادي والجامعي بما يحقق القضاء على الأمية والجهل وتوفير الموارد البشرية المؤهلة لخدمة المجتمع بالمستوى العالي فهي بأمس الحاجة إلى الأموال وخصوصاً الجامعات وانا ايضاً مع السيد مسعود البرزاني (( نعيش بدون خبز ولا نعيش بدون جامعة)).
أ.د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
شبيهه تتراكض زلمنه … إعله الصواني من عزمه
لا اعلم إن كان عنوان خاطرتي هذه غريباً، أو أنه ينسجم مع بقية الخواطر والذكريات او الأفكار التي سبق أن قرأتها لي، عزيزي القارئ، ولكني عزمت على كتابتها بعد أن ضقت ذرعاً بما اراه من موائد تغصّ بعشرات الكيلوات من الرز المغطى باللوز (وليس الفستق) والشعرية والكشمش والزعفران الاصفر المشبع بالدهن النباتي غالباً (وليس الحر)، كل هذا يغطى بنصف خروف على الاقل بلحمه وشحمه، فضلا عمّا يسطر على المائدة من مقبلات وسلطات وطرشي عادي ومحشى ومدبس مع الالبان، ومن ثم نرى تدافع الملاعق والشوكات، وتصارع الأيادي حتى الأكمام، وكلما أرى هذه العزائم او الدعوات المهيئة سواء أكانت قوازي بالصواني أم سمك بالابلام او دجاج، وهو الأقلّ بفضل انفلاونزا الطيور، وثبت في بلدنا ان لا وجود لها ولا أساس. كلما أرى ذلك أتذكر زميلي، في الصف الثاني المتوسط، عدنان، وكنّا يومها، في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، في المتوسطة الواقعة وسط الحلة، عندما كان يغني بصوته الجميل اغنيته المحببة التي مطلعها: شبيهه تتراكض زلمنه علصواني من عزمه ولطالما ضحكت كثيراً من هذه الأغنية برغم جمال الصوت، فيما أتذكر دائماً الوجيه الحلي المرحوم اسطه جابر حيث كان ينصح الاولاد ان دُعوا لوليمة ما فعليهم ان يأكلوا حتى الشبع التّام، والسبب: أنها حسبت عليهم دعوة وهم ملزمون بإيفائها، ومن المؤكد ان المدعوين من قبلهم سوف يأكلون في يوم من الايام حتى الشبع التّام. كنت الحظ منذ الصغر مآدب الأفراح والأتراح، وكيف تفرش البسط، وتمد الصواني، ويلتهم الناس الاكل التهاماً، والأغلبية من فقراء والله… فهنيئاً مريئاً، والثواب للطاعمين. وبعد أن كبرت، أصبحت دائم الاعتذار عن قبول دعوات المناسبات، لأنها المناسبة الوحيدة التي ابقى فيها جوعان، لكوني لا استطيع التسابق في الالتهام، فاكتفي ببعض الملاعق، أو الحبات وأعود إلى الدار حيث استأنف التهام الطعام بسبب فشلي في السباق! في احد المناسبات أقامت إحدى المؤسسات التي اعمل فيها وليمة عشاء، ولما أبلغني رئيسها بضرورة الحضور، اعتذرت بإصرار، ولكنه أصر على عدم قبول الاعتذار، فنصحني رفيق لي بان الأمر جزء من المجاملة، ويمكن أن نحضر الوليمة سوية، ونتناول بعض المقبلات وبعض ملاعق الرز الذي سيكون له حضور مؤكد في المكان، فسكتت وكان السكوت علامة الرضا والإذعان، وبعد أن وصلنا المكان، وكان الحشد ينتظر ساعة الصفر، أو صافرة الإذن بالالتهام، لم نجد منضدة نقف امامها به سوى ما كان منصوباً، ولكننا تأخرنا قليلاً في القيام وإذا احد المدعوين وكأنه من بقية العماليق، بل عملاق اضخم من حامل مصباح علاء الدين، يباشر بالصواني (هابيط هاباط) وعرفت لماذا سمي اللحم على التمن في الارياف بـ(الهبيط)؟ ولكني استغربت لماذا لم يسم هبيط هاباط، ولا اطيل عليك عزيزي القارئ، فلم نتناول أنا وزميلي أي مقبلات ولم نجد امامنا ثغرة نحصل من خلالها على بعض من (اللحم الوفير) واعتذر صاحبي لاصراره على المشاركة في هذه الوليمة التي لم نأكل فيها ولم نشرب، حتى المرطبات، وعدنا خائبين نسرع الخطى لتناول العشاء في الدار، آسفين لضياع الوقت هباءً. في سنة 1960 شاركني زميل، من الأردن الشقيق، الغرفة في القسم الداخلي، ولم أكن في حينها اعطي الافطار اي اهتمام، ولكنه كان يحتفظ بصفيحة من الزعتر وزيت الزيتون وبعض الاقراص من الخبز، وحالما يصبح الصباح يكون قد هيأ الإفطار، ولم أكن اعرف شيئا عن وجبة الإفطار هذه، ولكنه أعلمني بأنها أفضل من إفطار العراقيين كل صباح بالهريسة وقيمر الجاموس والباجة والتشريب والباقلاء وبعد حين ثبت لي صحة كلامه. في الغرب عندما كنا ندعى من قبل بعض عوائل الزملاء، كنا نعجب من الموائد التي تتضمن جميع الاصناف والاكلات، ولكنها كانت قليلة الكميات، فعليك بقليل من كل الانواع حتى تشبع منها، فلا قوزي، ولا مسكوف، ولا برياني، ولا مقلوبة الباذنجان، وفي بلادنا العربية لطالما سمعنا من أشقائنا العرب ممن زاروا العراق عن أنواع الكثير من الأكلات وأسمائها، وكيف هي مشبعة بالدهن وبجميع أصناف اللحوم والخضروات، فضلا عن حبنا لكروش الخرفان، الأمر الذي يثير العجب والحيرة لديهم.. لكننا نعللها بحب العراقيين للطعام، بفضل ما حبا الله العراق به من خيرات. في احد أيام الحصار، الذي سمي ظالماً على شعب العراق، دعيت، بسبب الموقع الوظيفي، لإفطار، وعند حضوري في المكان المخصص أعلمت زملائي بأني لا استطيع الإكثار من تناول الطعام، فأجابني زملائي: هل أنت عاقل أم خرفان، ألا تعلم أنها دعوة من نوع خاص، وقد يكون هناك مراقبون وكاميرات، ويكون مصيرك…. في ذلك المكان؟ فاقتنعت بأن الدكتاتورية والإكراه مختلفة الألوان والأنواع، فتراجعت عن رأيي وحال انتهاء الأذان، والإذن بالبدء في تناول الطعام حتى فزت بالسباق، إذ بقيت بفضل ما تناولته من طعام بعد هذه الوليمة المليئة بما لذ وطاب في زمن الحصار أربعة أيام بلا فطور ولا غداء ولا عشاء وبالله المستعان!! بعد تغير النظام استجبت لدعوة زملائي في كلية الإدارة والاقتصاد في جامعة البصرة، وسافرت عدة مرات لترأس لجان مناقشة طلبة الدكتوراه، وفي احد المرات تناولنا الطعام في احد مطاعم العمارة أو البطحاء، وعند وصولنا الفندق في مدينة البصرة لم نر ضرورة لتناول الغداء الذي دعانا له الزملاء، لكوننا تناولنا ما يكفي، ولكن بعد مرور ساعتين شعرت بالجوع، وكان عليّ أن أسارع لتناول أي طعام، فدخلت احد مطاعم العشار مسرعاً، وطلبت قائمة الطعام وكان فيها التشريب والقوزي ومرق البامية والباذنجان، ولكوني اشعر بحاجة شديدة للطعام طلبت تشريب لحم بزند أو رقبة أو أي قطعة كان، وبعد دقائق أتى العامل حاملاً ما طلبت وفق قائمة الطعام، وكان ما وضع على المنضدة شيء غريب لا تصدقه الألباب.. صحن كبير، بكبر طشت لغسل الأواني والقمصان، سألت العامل: كم قرص من الخبز هشمت في هذا الطشت ( عفوا الإناء!)؟ فقال لي: عشرة أقراص، وكم قطعة لحم؟ فقال لي: ثلاث، وما هذه الأقراص التي في الصحن الآخر؟ أجابني: إنها احتياط، فسألته: كم عددها أدامك الله؟ قال: خمس فقط لا غير، فتأكدت انه يجيد الحساب! ثم سألته: ولم هذا البصل؟ وقد وضع أمامي ثلاثة كل واحدة منها بكبر الشمام! فقال لي: إلك يا زبوننا الجوعان، فهل تأكل التشريب من دون البصل، أم أنك شبعان؟ سكتت، وتناولت ما كان بالإمكان، ودفعت الحساب، وغادرت المطعم، فتساءلت مع نفسي، في حينها: إذا كان أخواننا أهل البصرة يتناولون تشريباً بهذه الأحجام، فكيف نراهم بهذه الرشاقة وهذا الجمال؟ ولا أطيل عليك قارئي العزيز الكلام، ولكن ألا ترى في هذا الإفراط في طبخ والتهام الطعام سبباً لجميع الأمراض، فحتماً ستصيبنا، جلطة في القلب، وقد تكون أخرى في الدماغ، لا ينفع معها علاج ولا دواء، ولعلك تشاطرني الرأي في تذكر قول نبينا (ص) إن المعدة بيت الداء، فلم لا نلتزم بذلك ونقل من تناول الطعام المشبع باللحم والشحم والدهن الحر أو النبات؟ أليس توفير النفقات، والمحافظة على الصحة، أفضل من (الركض على الصواني)..؟
أ.د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
الاستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري – الرئيس الثالث لجامعة بغداد
تسنّم هذا المؤرخ الاسلامي الكبير رئاسة جامعة بغداد منذ منتصف شهر شباط في العام 1963, واستمر فيها حتى اواسط سنة 1966, ثم ترك رئاستها وعاد استاذاً للتأريخ في كلية الاداب التي يعود له الفضل في تأسيسها, ثم عاد مرة اخرى رئيساً لجامعة بغداد حتى اواخر شهر تموز من العام 1968. لقد عمل في هذه الجامعة عملاً دؤوباً , وكان مثابراً يتميز بنشاط منقطع النظير,اذ كان ادارياً كفوءاً جداً فضلاً عن كونه استاذاً لامعاً في اختصاصه. ان اكثر ما كان يميزه حرصه الكبير على متابعة الجانبين العلمي والاداري للجامعة على حد سواء, من دون ان يفرط بأحدهما على حساب الاخر مستفيداً من خبرته الطويلة في الاداء الجامعي , وكان ذلك يظهر جلياً باستمراره في العمل لساعات طوال يقضيها في رئاسة الجامعة, مكتفيًا بوجبة غداء بسيطة تجلب له من الدار. حقق هذا الرجل الفاضل كثيراً من المنجزات العلمية خلال مدة رئاسته لهذه الجامعة , ومنها حرصه على استقدام نخبة متميزة من الاساتذة العرب والاجانب من جامعاتهم ومؤسساتهم العلمية التي ينتسبون اليها في الخارج للعمل في جامعة بغداد , فكان لوجودهم اثر كبير في رفع المستوى العلمي للجامعة. ومن اعماله المتميزة انه قام بتوسيع نشاط جامعة بغداد ليمتد الى خارج العاصمة , ففتح في العام 1964 كليات عدة في البصرة والموصل ونسّب لادارتها نوابًا لرئيس جامعة بغداد, حتى اصبحت فيما بعد جامعتين مستقلتين في 1/4/1967 . كما استحدث مجلس البحث العلمي وجعله تابعًا لجامعة بغداد ونسب لادارته احد الاساتذة المتخصصين الكبار. ومن اعماله المتميزة الاخرى وضعه قانون الخدمة الجامعية الذي احتوى على الكثير من الاحكام التي راعت الجانبين الاعتباري والمادي لاساتذة الجامعة , وكان هذا القانون قد صدر بجهوده الشخصية سنة 1964. تميزت المدة التي ترأس فيها هذا المؤرخ الكبير جامعة بغداد بالاحترام والرعاية لاساتذة الجامعة على الصعد كافة, ولاسيما على الصعيد الرسمي, اذ كان يحظى الاستاذ الجامعي بمرتبة عالية متميزة في مؤسسات الدولة جميعًا , اما جامعة بغداد فقد كان لاساتذتها في الاعم الاغلب موقع مؤثر في اي حكومة تشكل في تلك المدة, اذ كان الكثير يعتقد (والله اعلم) ان للدكتور الدوري رأي في ترشيحهم. اذن هذه هي حالة جامعة بغداد خلال مدة رئاسته, ولولا جهوده وجهود من سبقوه ما اصبح لهذه الجامعة تلك المكانة المتميزة التي تخفق لذكرها قلوب الالاف من طلبة العلم واساتذته في ارجاء المعمورة, ولما اصبحت زاهية متألقة في الدولة والمجتمع. غادر الدكتور الدوري العراق بعد انقلاب 1968 متوجساً خيفة من النظام الجديد (وكان على حق) ولم يعد الى بلده ومسقط رأسه الى الان (على ما نعتقد) , الا ان سنوات الغربة لم تكن لتبعده عن بحثه الدؤوب في التأريخ الإسلامي , فقد انجز الكثير من البحوث , وكان له موقعه العلمي المتألق في الاردن الشقيق, وفي المحافل العلمية التأريخية الاسلامية عامة. قرأت كتابه الشهير تأريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري في طبعته الجديدة فرأيت في غزارة مادته العلمية ومنهجه الخاص ما يندر العثور على نظيره في هذا المجال البحثي, اذ تميز بموضوعيته وحياديته, مما جعله مؤلفاً نادراً. اثبت الدكتور الدوري في كتابه هذا بانه ليس مؤرخًا فحسب بل اقتصادي بارع في علم الاقتصاد عليم بأدق تفاصيله. ومع كل ذلك فلم تكرمه جامعة بغداد ولم تخلّد ذكراه على الرغم من عطائه هذا, الا بوضع صورته الشخصية في مجلس الجامعة لكونه ثالث رئيس لها. لذا ادعو مجلس جامعة بغداد ووزارة التعليم العالي البحث العلمي الى تكريم هذا العالم الجليل لما قدّم من خدمات جليلة لمسيرة الجامعة العلمية بل لمسيرة التعليم العالي في العراق, واتمنى ان يرى الدكتور الدوري هذا التكريم وهو على قيد الحياة لكي ننزل الناس منازلهم التي يستحقونها فنكون خير خلفٍ لخير سلف.
ندعوا الله العلي القدير ان يطيل في عمر هذا العالم الجليل انه سميع مجيب
أ.د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
الدكتور فوزي القيسي – الاقتصادي والإداري المتميز
كان الدكتور فوزي القيسي – رحمه الله – من الأساتذة الذين لهم مكانتهم المتميزة في الإدارة والاقتصاد في العراق, وودت الحديث عنه في مقالتي هذه لأقول عنه: انه كان عالماً اقتصادياً متخصصاً بالنظرية النقدية , فاهماً لأدق تفاصيل النظرية النقدية الكنزية, أدار كلية الإدارة والاقتصاد في جامعة بغداد, ومصرف الرافدين, والبنك العربي الفرنسي, ووزارة المالية العراقية بتفوق وتميز. شاهدت الدكتور فوزي القيسي عميدًا لكلية التجارة والاقتصاد في جامعة بغداد عند التحاقي بها سنة 1958, وكان ذلك في نادي الكلية عندما حصل نوع من التأزم والشد بين الطلبة في الأشهر الأولى من عمر الثورة, اذ بدأ في وقتها الانشقاق والاختلاف بين الكتل السياسية , فجاء (رحمه الله) الى النادي واعتلى إحدى المناضد, ليخطب بنا خطبة وطنية عصماء داعيًا لنا للتمسك بالوحدة وعدم التفرقة لكي لا نكون عرضة لعملاء الاستعمار فيندسوا بين صفوفنا. ومرت السنون , وتخصصنا في قسم الاقتصاد ليدرسنا هذا العالم الكبير النظرية النقدية, وهي في مجملها تمثل نظريات وأراء العالم الاقتصادي الانكليزي كينز منقذ الرأسمالية من أزمتها الشهيرة في الثلاثينيات . فكان بارعاً في شرح تلك الأفكار وأهدافها ومراميها وتأثيراتها الاقتصادية ودورها في القضاء على البطالة, ونمو الدخل القومي, وما زالت تلك النظريات من ذلك العالم الكبير شاخصة في أذهاننا كرسوخ ذكراه وحبه في قلوبنا. تسلّم الدكتور فوزي القيسي بعد حين إدارة مصرف الرافدين, فكان أداءه متميزاً جداً كعادته, ثم تسلًم محافظية البنك المركزي العراقي, فكان من أكفأ من تسلم كرسي المحافظية فيه, ثم كلّف بإدارة البنك العربي الفرنسي وكان ناجحاً في إدارته أيما نجاح, ثم بعد ذلك كله تسنّم منصبه ليكون وزيرًا للمالية, وأكاد اجزم بأنه اكفأ من شغل هذا المنصب, اذ أدار هذه الوزارة بمستوى لم يسبق له نظير خلال الخمس والثلاثين سنة الماضية, ولو لم يكن الحكم خلال تلك السنوات حكمًا شموليًا لكان اداءه افضل مما كان عليه ( وان كان قد بلغ مرتبة التميز في الأداء) . كان رحمه الله خفيف الدم حاضر النكتة بشوشاً دائم الأناقة, لكنه دائم التدخين فأحرق حنجرته بالسيكارة التي احبها حتى أصابته مقتلاً بتلك الحنجرة التي كان يصب منها علمه علينا. إن هذا الرجل المثال, يفرض علينا ان نعطيه حقه ونكرّمه , فندعو كلية الإدارة والاقتصاد ورئاسة جامعة بغداد بتخليد ذكراه في تلك الكلية التي تألقت عند ادارته لها.
أ.د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
الوحدة بآمرها أم الآمر بوحدته
قد يكون من المتفق عليه جداً أن جيشنا العراقي ولا أقول السابق أو اللاحق وإنما عموم الجيش العراقي منذ تأسيسه وحتى ألان يتصف أو يتميز بميزات كثيرة جداً مازلت معجباً بها ومتأثراً بها؛ كوني قد تخرجت في إحدى كلياته ملازماً احتياطاً وحققت تفوقاً كبيراً في مستوى التخرج، كما وكان للخدمة الفعلية أثرها في الإفادة من الكثير مما كان لا يمكن إن نتعلمها في الحياة المدنية، وان كنت قد ذكرت أهم ما أعتقده ورأيته من صفات ذلك الجيش وضباطه وقادته، ولكني سأركز في خاطرتي هذه على أمر مهم جداً تتصف به الكثير من جيوش العالم، ذلك أنها تكون دائماً مدرسة إدارية خاصة ومتميزة لطالما أهدت لعلم الإدارة العامة وإدارة الإعمال الكثير من النظريات والدراسات والأفكار الإدارية التي كان لها انعكاسها الكبير على الواقع الإداري المدني في تلك المجتمعات وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية على طول القرن الماضي، وكانت للحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية والحرب الكورية والحرب الفيتنامية وحتى حروب الخليج الأخيرة أثرها في تطوير النظم الإدارية للجيش الأميركي وأصبحت لها أثراً واضحاً في تطوير نظم الإدارة العامة وإدارة الإعمال في عموم الولايات المتحدة الأميركية، وذلك ليس حكراً عليها بل أن جميع الدول الأوربية واليابان وغيرها لجيوشها فضلاً على تنمية إدارة أغلب قطاعاتها الاقتصادية والاجتماعية . إن عدنا إلى جيشنا العراقي ذي البطولات والصفحات الخالدة في سفره نجده لم يكن قاصراً في بلورة الكثير من الأساليب الإدارية العلمية لتنظيم أدائه وعمله منذ تأسيسه وحتى الوقت الحاضر وذلك بفضل ضباطه الأكفاء المخلصين، لكن ذلك لا يمنع من الإشارة إلى بعض السلبيات التي تسود في أدائه ولا أريد أن أسهب في ذكرها ولكن أشير إلى أهمها أولها مسألة الأوامر التي أعابها الرئيس عبد الناصر على جيشنا لتبرير هزيمة الجيوش العربية في فلسطين وعزا ضعف أدائه بالتزامه المفرط بالأوامر ( المفقودة غالباً ) وهي ما زالت يشار إليها حتى الوقت الحاضر ( كما اعتقد ) لتبرير الإخفاقات، والتأخر في تنفيذ الواجبات، وهذه المشكلة هي ليست في الجيش وحده بل هي أعقد واكبر مشكلة في جهاز الدولة المدني أيضا، التي غالباً يكون فيها موظفين ومسؤولين ( المادون ) لا يتحركون إلا بالأوامر التي يجب ان تصدر صغيرة كانت أو كبيرة تنفيذاً لأوامر مسؤوليهم الأعلى ( ألما فوق ) ليتسنى له التحرك والعمل بموجب صلاحيته بكفاءة ودقة والوقت المناسب فيحصل الإرباك في العمل برفع المطالعات وكثرة الهوامش حين يحسم الأمر ويتخذ القرار يكون ذلك غالباً بعد فوات الأوان ودفع الله ما كان، أو كفى المسؤولين مشقة الهوامش والمطالعات . إن هذه الحالة التي ذكرتها هي مدخل لحالة سلبية أرجو أن تكون قد انحسرت في جيشنا الباسل أو يجب أن لا تسود ولكنها تسربت إلى أجهزتنا المدنية بصورة غير مباشرة وإن كانت كحالة سلبية في العمل الإداري بدأت تظهر بصورة تدريجية في أوائل التسعينات وحتى الوقت الحاضر، أما مسألة حصر الصلاحيات سحبت بصورة تلقائية معها مفهوماً إداريا خاطئاً لا يعتمد في جيوش الدول المتقدمة ولا مؤسساتها الاقتصادية إنتاجية كانت أو خدمية ذلك هي القاعدة التي تقول : ( إن الوحدة بآمرها ) ولكني حتى لا أسهب في تفاصيل خاطرتي هذه أقول إن جيوش الدول المتقدمة تعتمد مبدأ ( الآمر بوحدته ) وليس ( الوحدة بآمرها )، وإن كان انعكاس ذلك سرى في دوائرنا الحكومية وأصبحت هذه الدوائر تُآمن بأن الدائرة أو المؤسسة بمديرها فأن الجهاز الإداري في جميع الدول المتقدمة يعتمد مبدأ المدير ( أو المدير العام ) بدائرته وليس العكس . أعود مرة أخرى عزيزي القارئ لتوضيح ما أعتقد وإزالة ما عليك من اللبس، ذلك لأن الآمر أو المدير هو فرد واحد ذو قدرات وإمكانيات محدودة وليست خارقة أو غيرها كما هو يُعتقد لدينا، صحيح أن من يحصل على هذه الرتبة أو المنصب ينبغي أن يكون حاصلاً على شهادة علمية مناسبة ومتخصصة وان يكون مناسباً من جميع الوجوه لتسنم هذا المنصب وتحمل مسؤولية ما جرى وما يجري في هذه الوحدة أو الدائرة وأنه الوحيد الذي يفهم وغيره لا يفهمون وانه الوحيد الشجاع الذي يتحمل المسؤولية وغيره لا يتحملها وهو …. الخ، مما أنزل الله بها من قدرات وسلطان فسيكون الأمر تماماً بأن الوحدة بآمرها والدائرة بمديرها لأنه هو فقط من يتولى زمام الأمور ومسؤوليتها أما الآخرون فهم نيام ينتظرون آمرهم أو مديرهم يدق لهم جرس أو يعزف على بوق التعداد أو الاصطفاف أو يفتح لهم الأبواب ولا أريد الإسهاب لحضرتك قارئي العزيز بهذه الأمثال فهي في وحداتنا ( كما اعتقد ) ودوائرنا ( كما أنا متأكد ) الكثير الكثير العجيب الغريب، وليس فقط الوحدة أو الدائرة بآمرها أو مديرها عكس العالم المتقدم الذي تقدم بفضل ( الآمر بوحدته ) أو ( المدير بدائرته ) .
أ.د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
خبير خبراء الطب العدلي – المرحوم الدكتور وصفي محمد علي
كتبتُ قبل مدة وجيزة عن المؤرخ الكبير جواد علي, وها أنا أخط بقلمي الحر عبارات بحق أخيه المغفور له وصفي محمد علي. وُلِد الدكتور وصفي محمد علي في الكاظمية , وعاش في كنفها, وعندما أينع درس وتعلم أصول الفقه في (كلية الامام الاعظم), وأرتبط بفتاة كانت من عائلة سنية. شخصيتان اتحدتا واتصفتا بالأخلاق الحميدة حياة ومماتـًا, فكما تألق المرحوم الدكتور جواد علي في الكتابة والتأليف والتبحر في علم التأريخ , تألق وأبدع كذلك أخاه المرحوم الدكتور وصفي محمد علي في الطب لاسيما الطب العدلي, وهو أدق فروع الطب عامة, كانا يأبيان التملق ويرفضان الاذعان لاحقاق باطل كرهاً لأية سلطة كانت, عاشا وماتا معاً ودفنا في مقبرة واحدة متجاورين فلم يفترقا, غفر الله لهما ورحهما وادخلهما فسيح جناته إن الله سميع الدعاء. برع المرحوم الدكتور وصفي محمد علي في علم (الطب العدلي) وأبدع فيه أيما ابداع, فقد كان شغوفـاً به, إذ كرّس حياته وفكره في خدمة هذا الفرع من فروع الطب, فتدفقت مواهبه وأراءه العلمية في كتبه وبحوثه المتميزة, فاتكأ عليها واعتمدها كتبًا منهجية أغلب طلبة كلية الطب والقانون والشرطة في العراق وفي الوطن العربي, إلى جانب طلبة الدراسات العليا في جميع تلك الكليات. وتجدر الإشارة إلى مسألة مهمة إن فرع الطب العدلي أو (الطب الشرعي) كما يسمى في بقية الدول العربية من أهم فروع الطب العامة؛ كونه يتميز بأهمية علمية وبخصوصية قانونية أيضًا, وهذ الاهمية والخصوصية التي يمتاز بها الطب العدلي تذكرّني بأحد المواقف الطبية والقانونية الرصينة والمهمة في الوقت نفسه للمرحوم الدكتور وصفي محمد علي, وهي شهادته في محكمة الشعب (محكمة المهداوي) بشأن قضية محاولة إغتيال عبد الكريم قاسم, إذ أفاد بأن من مسؤولية الطبيب الانسانية معالجة المريض أي كان, ولكن من واجباته القانونية إعلام الشرطة بإسم المصاب الجريح , إذ قد يكون للأمر أسباب جنائية. وفي أواخر الستينات, حيث لم يمض على إنقلاب 17 من تموز سوى شهرين أو أكثر بقليل, من مواقفه الجديرة بالذكر رفض الدكتور المرحوم تسليم تقرير الطب العدلي الرسمي بشأن تشريح جثة أحـد المتوفيـن تحـت طائـلة التعذيـب, وعندمـا أصـرّ رئيـس النظام السابق عليه تسليمه تقرير الطب العدلي أخبره بأن التقرير يسلـّم إلى حاكم التحقيق في القضية , فأجابه قائلاً: هل يُمتنع تسليم التقرير الى نائب رئيس الجمهورية, فردّ عليه: حتى وإن كنت رئيساً للجمهورية. فأعجب موقفه الحازم هذا صدام حسين وأهلّه إلى الى منصب المسؤولية عن كتابة التقارير الطبية التي تهم شخصه رغبة في الحصول على تقرير موثوق في اسبابه. كذلك رفضه في حقبة الثمانينات رفضاً قاطعاً تقديم مقترح لتشريع قانون كان يخالف أحكام الشريعة والقانون, مبررًا موقفه هذا بعدم اختصاصه بهذا المجال. ومن المواقف النادرة التي قلّما في وقتنا هذا يتحلـّى بها ذات الإنسان، حفظه كرامته وماء وجهه من أن يدنّس حتى لو كانت بنظرة عين يرمق بها من شخص آخر , إذ رفض اقتراح بعض اصدقائه في أن يرفع طلباً إلى رئيس النظام السابق لتكريمه , على الرغم من ظروفه المعيشية والمادية الصعبة التي مر بها. كُرّم في حياته تكريم رائع من عمادة كلية الشرطة وسمّت بإسمه إحدى قاعاتها الدراسية, وقامت بطبع كتابه (الوجيز في الطب العدلي) على نفقتها الخاصة ليكون منهجاً اساسياً يُدّرس على طلبتها في الكلية. وكان يأمل أن يحظى معهد الطب العدلي في بغداد برعاية واهتمام الدولة في إقامة بناية حديثة واسعة له تلائم وتسع حجم العمل الكبير الذي كان يلقى على عاتقهم لاسيما في فصل الصيف, إذ تكثر فيه الحوادث والجرائم , إلا أن مقترحه لم يلق النور إذ استغلت هذه الأرض لبناية وزارة الصحة بناءً على فكرة المرحوم الدكتور رياض الحاج حسين, فظل معاتباً له على الرغم من احترامه وتقديره له وحبه الكبير لنزاهته وأسفه المستمر على قتله ظلمًا على يد النظام السابق. وقد يكون من الطريف في آخر مقالتي هذه أن أذكر مشاركته في الكشف على جميع الجرائم التي اقترفتها عصابة أبو الطبر, إذ أكد لي أن مقترفها مجرم محترف وسادي, لكن رئيس اللجنة التحقيقية – وهو أحد مسؤولي النظام السابق – أكد أمرًا مخالفـًا لما توصل إليه الدكتور المرحوم أن هذه الاحداث ارتكبتها عصابة اجنبية وأهدافها سياسية. وفي الآونة الأخيرة اتضحت صحة نظرته العلمية الطبية في كونه مجرمًا محترفـًا وساديًا. ويمكن أقول أخيرًا عن هذين الاخوين إن أهم تكريم يمكن أن يقدم للعالمين الجليلين من وزارتي التعليم العالي والبحث العلمي والصحة, هو تنظيم موقع قبريهما اللذين دفنا في مقبرة جامع براثا. وأدعو كذلك من وزارة الصحة إلى أن تلتفت إليه التفاتة تقدير وإحترام له كما التفت اليه أحد كبار أساتذة الطب العدلي المصريين ونعته بخير خبراء العرب في الطب العدلي, بأن تسمي معهد الطب العدلي بإسمه احتراماً للذي خدم العراق لمدة تزيد عن نصف قرن من الزمن.
أ.د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي ابراهيم كبة – المفكر البارع والاقتصادي المتميز
تتفاوت الدوافع للكتابة بقدر تفاوت الكاتبين ,ولا يتقدم الكاتبون بعضهم على بعض الا على قدر ما يحملون من نوايا بين جوانحهم , فمنهم الصادق ومنهم دون ذلك , وهم بعد ذلك لا يغيرون من الحقيقة شيئًا , ولكنهم يتفاضلون في سعيهم لكشف تلك الحقيقة, واظهارها بصورتها البيضاء الناصعة, تسر الناظرين وتملؤهم غبطة وسرورًا وعلى هذا لا على غيره وددت الكتابة عن شخصية متميزة كان لها دورها البارز في تاريخ العراق الحديث, الا وهي شخصية المفكر البارع الاستاذ الكبير المرحوم إبراهيم كبه. اختارته قيادة ثورة 14 تموز (1958) ليكون وزيراً للاقتصاد ثم وزيراً للاصلاح الزراعي, وكان متألقاً في ادائه وافكاره خلال المدة القصيرة التي شغلها في هذين المنصبين. وفي وزارة الاقتصاد كان ابرز ما نادى به (على ما اتذكر) مقاطعة فرنسا اقتصادياً مناصرة للثورة الجزائرية العظيمة , الا انها لم تلق استجابة من دول الجامعة العربية على الرغم من التبجح الذي كان يظهره العرب في هذا الجانب, فكان ما طرحه في ذلك الاجتماع امتحانًا عسيرًا تميز فيه الصادق من الكاذب , كما كانت افكاره في الوحدة الاقتصادية العربية اسبق من الوحدة الاقتصادية الاوربية , وما زالت وحدتنا الاقتصادية العربية تحبو في خطواتها الأولى لحد ألان مع الأسف. أما الاتفاقية الاقتصادية العراقية السوفيتية فكانت مثالاً رائعاً لبداية التصنيع في العراق بقيادة القطاع العام وعلى الرغم من الضجة التي اثارها معارضو عبد الكريم قاسم وحاسدوا إبراهيم كبة التي ادت الى تعطيل تنفيذها في ذلك الوقت , عاد هؤلاء انفسهم الذين وقفوا ضدها بعد تسع او عشر سنوات ليعملوا جاهدين على تنفيذها فكانت بما تحتويه من مصانع ومنشآت مساهمة كبيرة في التصنيع في العراق. ولم يكن عمل الاستاذ ابراهيم كبة على صعيد الزراعة اقل شأناً منه على صعيد التجارة, فعند تسنمه وزراة الزراعة عمل جاهداً لتنفيذ القانون الذي كان يهدف بمضمونه السياسي الى انهاء نفوذ الاقطاع السياسي والاقتصادي ورفع مستوى الإنتاج الزراعي لاحقـاً. وقد أوضح لنا رحمه الله في محاضراته فيما بعد عندما عمل استاذاً في كلية الاقتصاد والتجارة في جامعة بغداد سنة 1962 , أسباب السرعة العالية في تنفيذ ذلك القانون. وعندما سألناه نحن طلبته المعجبين بمستواه العلمي العالي عن اسباب انخفاض انتاجية القطاع الزراعي بعد ثورة 14 تموز 1958 كانت اجابته, بأن تفتيت الملكية كان هدفـاً سياسياً ولكن… واضاف سبباً طريفاً اخر صاغه بصورة بلاغية, اذ قال ان احد الاسباب الاخرى هو ان الوزارات العراقية لا تسير جميعها سويةً على خط واحد في ادائها, وانما اشبه ما تكون بخيول السباق, يصل احدها الى المقدمة في الوقت الذي يكون بعضها في مؤخرة الركب. والحالة الأخيرة هي حال جميع وزاراتنا اذ تحبو ولا تركض مسرعة , كانت لملازم الفكر الاقتصادي المائة أثرها الكبير فيما تعلمناه في قسم الاقتصاد وكان يضع الأسئلة بطريقة متميزة اذ يبغي منها التحقق من الفهم وليس الحفظ اما الدرجات فهي على مستوى الإجابة التي تصب في الهدف من السؤال وليس الإسهاب بالإجابة, كانت محاضراته في مرحلة الدراسة الجامعية الأولية المائة صفحة أفضل من كتاب المفكر الاقتصادي البولوني ميشنيفسكي الذي كان يحتوي ثمانمائة صفحة والذي درسته في بولونيا خلال دراستي مرحلة الدكتوراه, رحم الله الأستاذ إبراهيم كبة المفكر الاقتصادي العظيم والنزيه.
أ.د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
المؤرخ العظيم والاستاذ المتواضع المرحوم الدكتور جواد علي
كنت اشاهده غالباً بأناقته المعهودة يسير في الامسيات الجميلة في شارع ابي نواس, حتى ابلغني صديقي خريج كلية التربية بأن هذا الشخص هو استاذ التأريخ العربي في جامعة بغداد – كلية التربية – قسم التأريخ, وهو مؤرخ كبير في تاريخ العرب قبل الاسلام خصوصًا, وبعد ان اصبحت قريبًا اليه بعد عدة سنوات كنت استمتع بالحديث معه في قضايا البلد عمومًا والمسائل التاريخية خصوصًا , وكان اكثر ما يعجبني فيه هي آراؤه في الأحداث التاريخية حيث كانت اراؤه علمية موضوعية وليست سردية سطحية كما اتصف به بعض مؤرخو كتب التأريخ (مع الأسف). كان رحمه الله دمث الأخلاق , متواضعاً إلى أبعد الحدود شغوفـًا بالكتابة والبحث في تأريخ العرب قبل الإسلام وكانت من أهم مؤلفاته في هذا الجانب موسوعته الشهيرة الموسومة بـ (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) وقد استمر في بحثه وتأليفه – بعد ذلك – في الكتابة عن تاريخ العرب في العصر الإسلامي وكانت ولادة جلّ مؤلفاته وما خطّه قلمه وما جال به فكره في البحث والتقصي, كانت في شقة متواضعة في عمارة (جميل حافظ) تقع في شارع الرشيد, عاش وفضّل البقاء وحيدًا فيها . وقد أعجبني المرحوم الدكتور جواد علي في أرائه التاريخية الموضوعية وآراءه الأخرى ومنها التي لن أنساها رأيه في أسباب هجرة الكفاءات العلمية من بلدنا الذي أجراه في تحقيق صحفي وفيه أشار إلى محاور رئيسة في أن أسباب هجرة الكفاءات العراقية, هي أسباب علمية واعتبارية وليست أسباب مادية بحتة, كون أصحاب الكفاءات قصدوا جامعات وأجنبية ذات أساس علمي رصين سبيلاً للبقاء في اجواء علمية واكاديمية عالية المستوى إلى جانب توفر الإمكانيات اللازمة لإجراء البحوث والدراسة من أجهزة حديثة وكتب ومجلات علمية, وهناك عامل ثان ٍ ومهم, هو أن الباحث العلمي العائد من الخارج قد يعود ويجد الجامعات تفتقر إلى ابسط المتطلبات الدراسية والإمكانيات العلمية التي يحتاج إليها الأكاديمي العراقي, وقد يجد المسؤول عنه لا يفقه شيئـًا في علمه او ادارة منصبه وتعامله مع رعيته فيشد الرحال من حيث أتى, حيث يجد الأفاق الرحبة في تلك البلدان. وقد مرض الدكتور جواد علي المؤرخ العظيم وطال مرضه ولم تلتفت اليه وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ولا وزارة الثقافة والاعلام ولا المجمع العلمي الذي كان عضوًا فيه, وحصل على هذه الالتفاتة ولكنها كانت متأخرة بعد أن نخر المرض جسده, وبعد ان طلب الرئيس اليمني السيد علي عبد الله صالح من سفيره في العراق استحصال موافقة الحكومة العراقية لنقله الى ارقى المستشفيات الاميركية على نفقة الحكومة اليمنية وفاءً من الشعب اليمني لاصالة ما كتبه عن تأريخ اليمن فسارعت الحكومة العراقية آنذاك بنقله إلى مستشفى ابن البيطار ولم ينفع العلاج فيه شيئـًا. وفي حفل تأبينه المتواضع القى الاستاذ الدكتور حسين علي محفوظ كلمة رائعة في رثائه ولكن اهم ما قاله فيها بحق هذا المؤرخ العظيم, ان المؤرخ الطبري سأل النساخين إن كانوا باستطاعتهم كتابة كتاب كبير فسألوه كم صفحة هو, قال لهم عشرة الاف صفحة فأجابوه بان ذلك يفني العمر يا شيخ, وقد اضاف العلامة محفوظ في كلمته, إن المرحوم الدكتور جواد علي كانت في يده ندبة منذ الولادة , وعن هذه الندبة قالت احدى العراقيات لوالدته عندما رأتها وهو طفل أن ولدك هذا سيكون كاتبًا كبيرًا وتحقق ذلك حيث كتب بهذه اليد الكريمة وفي شقته الصغيرة موسوعة كبيرة في تأريخ العرب قبل الاسلام يحتوي على اكثر من أربعين ألف صفحة تعد المرجع الوحيد والاصيل وبهذه السعة في تأريخ العرب قبل الاسلام . كان رحمه الله متواضعاً بسيطـاً مرحاً دائماً , كان الجلوس معه والحديث معه من امتع السويعات التي التقي فيها معه في الأعياد خصوصاً ولم يكن في ارائه متطرفـًا او منحازاً لاي جهة او طائفة او دين او عنصر , كيف يكون ذلك وهو الكاظمي الذي درّس الفقه في كلية الامام الاعظم وهو الجعفري وزوجته سنية وهو الذي كان يحب الجميع ويحترمهم والذي كان العراق في قلبه وضميره فأبى مغادرته حتى مات ودفن فيه. اين جامعة بغداد في تخليد اساتذتها الكبار واين التكريم الذي يستحقوه واين يذكر اسمه ومساهماته كما يقتضي الوفاء لهؤلاء العظام وفي مقدمتهم المرحوم المؤرخ العظيم والاستاذ المتواضع جواد علي, ادعو وزارة التعليم العالي والبحث العلمي الالتفات إلى ذلك.
أ.د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
|
||
الرئيسية |
السيرة الذاتية |
مقالات |
مؤلفات |
البوم الصور |
رسائلكم |
رثاء |
ط§طھطµظ„ ط¨ظ†ط§
جميع الحقوق محفوظة لموقع الاستاذ الدكتور ماهر العبيدي ©2009 |