اهلا بكم
اهلا بكم
بحث في الموقع

شبيهه تتراكض زلمنه … إعله الصواني من عزمه

 

لا اعلم إن كان عنوان خاطرتي هذه غريباً، أو أنه ينسجم مع بقية الخواطر والذكريات او الأفكار التي سبق أن قرأتها لي، عزيزي القارئ، ولكني عزمت على كتابتها بعد أن ضقت ذرعاً بما اراه من موائد تغصّ بعشرات الكيلوات من الرز المغطى باللوز (وليس الفستق) والشعرية والكشمش والزعفران الاصفر المشبع بالدهن النباتي غالباً (وليس الحر)، كل هذا يغطى بنصف خروف على الاقل بلحمه وشحمه، فضلا عمّا يسطر على المائدة من مقبلات وسلطات وطرشي عادي ومحشى ومدبس مع الالبان، ومن ثم نرى تدافع الملاعق والشوكات، وتصارع الأيادي حتى الأكمام، وكلما أرى هذه العزائم او الدعوات المهيئة سواء أكانت قوازي بالصواني أم سمك بالابلام او دجاج، وهو الأقلّ بفضل انفلاونزا الطيور، وثبت في بلدنا ان لا وجود لها ولا أساس.

 كلما أرى ذلك أتذكر زميلي، في الصف الثاني المتوسط، عدنان، وكنّا يومها، في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، في المتوسطة الواقعة وسط الحلة، عندما كان يغني بصوته الجميل اغنيته المحببة التي مطلعها:

شبيهه تتراكض زلمنه     علصواني من عزمه

ولطالما ضحكت كثيراً من هذه الأغنية برغم جمال الصوت، فيما أتذكر دائماً الوجيه الحلي المرحوم اسطه جابر حيث كان ينصح الاولاد ان دُعوا لوليمة ما فعليهم ان يأكلوا حتى الشبع التّام، والسبب: أنها حسبت عليهم دعوة وهم ملزمون بإيفائها، ومن المؤكد ان المدعوين من قبلهم سوف يأكلون في يوم من الايام حتى الشبع التّام.

كنت الحظ منذ الصغر مآدب الأفراح والأتراح، وكيف تفرش البسط، وتمد الصواني، ويلتهم الناس الاكل التهاماً، والأغلبية من فقراء والله…  فهنيئاً مريئاً، والثواب للطاعمين.

وبعد أن كبرت، أصبحت دائم الاعتذار عن قبول دعوات المناسبات، لأنها المناسبة الوحيدة التي ابقى فيها جوعان، لكوني لا استطيع التسابق في الالتهام، فاكتفي ببعض الملاعق، أو الحبات وأعود إلى الدار حيث استأنف التهام الطعام بسبب فشلي في السباق!

في احد المناسبات أقامت إحدى المؤسسات التي اعمل فيها وليمة عشاء، ولما أبلغني رئيسها بضرورة الحضور، اعتذرت بإصرار، ولكنه أصر على عدم قبول الاعتذار، فنصحني رفيق لي بان الأمر جزء من المجاملة، ويمكن أن نحضر الوليمة سوية، ونتناول بعض المقبلات وبعض ملاعق الرز الذي سيكون له حضور مؤكد في المكان، فسكتت وكان السكوت علامة الرضا والإذعان، وبعد أن وصلنا المكان، وكان الحشد ينتظر ساعة الصفر، أو صافرة الإذن بالالتهام، لم نجد  منضدة نقف امامها به سوى ما كان منصوباً، ولكننا تأخرنا قليلاً في القيام وإذا احد المدعوين وكأنه من بقية العماليق، بل عملاق اضخم من حامل مصباح علاء الدين، يباشر بالصواني (هابيط هاباط) وعرفت لماذا سمي اللحم على التمن في الارياف بـ(الهبيط)؟ ولكني استغربت لماذا لم يسم هبيط هاباط، ولا اطيل عليك عزيزي القارئ، فلم نتناول أنا وزميلي أي مقبلات ولم نجد امامنا ثغرة نحصل من خلالها على بعض من (اللحم الوفير) واعتذر صاحبي لاصراره على المشاركة في هذه الوليمة التي لم نأكل فيها ولم نشرب، حتى المرطبات، وعدنا خائبين نسرع الخطى لتناول العشاء في الدار، آسفين لضياع الوقت هباءً.

في سنة 1960 شاركني زميل، من الأردن الشقيق، الغرفة في القسم الداخلي، ولم أكن في حينها اعطي الافطار اي اهتمام، ولكنه كان يحتفظ بصفيحة من الزعتر وزيت الزيتون وبعض الاقراص من الخبز، وحالما يصبح الصباح يكون قد هيأ الإفطار، ولم أكن اعرف شيئا عن وجبة الإفطار هذه، ولكنه أعلمني بأنها أفضل من إفطار العراقيين كل صباح بالهريسة وقيمر الجاموس والباجة والتشريب والباقلاء وبعد حين ثبت لي صحة كلامه.

في الغرب عندما كنا ندعى من قبل بعض عوائل الزملاء، كنا نعجب من الموائد التي تتضمن جميع الاصناف والاكلات، ولكنها كانت قليلة الكميات، فعليك بقليل من كل الانواع حتى تشبع منها، فلا قوزي، ولا مسكوف، ولا برياني، ولا مقلوبة  الباذنجان، وفي بلادنا العربية لطالما سمعنا من أشقائنا العرب ممن زاروا العراق عن أنواع الكثير من الأكلات وأسمائها، وكيف هي مشبعة بالدهن وبجميع أصناف اللحوم والخضروات، فضلا عن حبنا لكروش الخرفان، الأمر الذي يثير العجب والحيرة لديهم.. لكننا نعللها بحب العراقيين للطعام، بفضل ما حبا الله العراق به من خيرات.

 في احد أيام الحصار، الذي سمي ظالماً على شعب العراق، دعيت، بسبب الموقع الوظيفي، لإفطار، وعند حضوري في المكان المخصص أعلمت زملائي بأني لا استطيع الإكثار من تناول الطعام، فأجابني زملائي: هل أنت عاقل أم خرفان، ألا تعلم أنها دعوة من نوع خاص، وقد يكون هناك مراقبون وكاميرات، ويكون مصيرك…. في ذلك المكان؟  فاقتنعت  بأن الدكتاتورية والإكراه مختلفة الألوان والأنواع، فتراجعت عن رأيي وحال انتهاء الأذان، والإذن بالبدء في تناول الطعام حتى فزت بالسباق، إذ بقيت بفضل ما تناولته من طعام بعد هذه الوليمة المليئة بما لذ وطاب في زمن الحصار أربعة أيام بلا فطور ولا غداء ولا عشاء وبالله المستعان!!

بعد تغير النظام استجبت لدعوة زملائي في كلية الإدارة والاقتصاد في جامعة البصرة، وسافرت عدة مرات لترأس لجان مناقشة طلبة الدكتوراه، وفي احد المرات تناولنا الطعام في احد مطاعم العمارة أو البطحاء، وعند وصولنا الفندق في مدينة البصرة لم نر ضرورة لتناول الغداء الذي دعانا له الزملاء، لكوننا تناولنا ما يكفي، ولكن بعد مرور ساعتين شعرت بالجوع، وكان عليّ أن أسارع لتناول أي طعام، فدخلت احد مطاعم العشار مسرعاً، وطلبت قائمة الطعام وكان فيها التشريب والقوزي ومرق البامية والباذنجان، ولكوني اشعر بحاجة شديدة للطعام طلبت تشريب لحم بزند أو رقبة  أو أي قطعة كان، وبعد دقائق أتى العامل حاملاً ما طلبت وفق قائمة الطعام، وكان ما وضع على المنضدة شيء غريب لا تصدقه الألباب.. صحن كبير، بكبر طشت لغسل الأواني والقمصان، سألت العامل: كم قرص من الخبز هشمت في هذا الطشت ( عفوا الإناء!)؟ فقال لي: عشرة أقراص،  وكم قطعة لحم؟ فقال لي: ثلاث، وما هذه الأقراص التي في الصحن الآخر؟ أجابني: إنها احتياط، فسألته: كم عددها أدامك الله؟ قال: خمس فقط لا غير، فتأكدت انه يجيد الحساب! ثم سألته: ولم هذا البصل؟ وقد وضع أمامي ثلاثة كل واحدة منها بكبر الشمام! فقال لي: إلك يا زبوننا الجوعان، فهل تأكل التشريب من دون البصل، أم أنك شبعان؟ سكتت، وتناولت ما كان بالإمكان، ودفعت الحساب، وغادرت المطعم، فتساءلت مع نفسي، في حينها: إذا كان أخواننا أهل البصرة يتناولون تشريباً بهذه الأحجام، فكيف نراهم بهذه الرشاقة وهذا الجمال؟

  ولا أطيل عليك قارئي العزيز الكلام، ولكن ألا ترى في هذا الإفراط في طبخ والتهام الطعام سبباً لجميع الأمراض، فحتماً ستصيبنا، جلطة في القلب، وقد تكون أخرى في الدماغ، لا ينفع معها علاج ولا دواء، ولعلك تشاطرني الرأي في تذكر قول نبينا (ص) إن المعدة بيت الداء، فلم لا نلتزم بذلك ونقل من تناول الطعام المشبع باللحم والشحم والدهن الحر أو النبات؟

أليس توفير النفقات، والمحافظة على الصحة، أفضل من (الركض على الصواني)..؟   

 

أ.د. ماهر موسى العبيدي

أكاديمي عراقي       

 

 

»

اكتب تعليقا