اهلا بكم
اهلا بكم
بحث في الموقع

مجكرخانة

 

كان والدي يعشق السيكارة، فكانت لا تكاد تفارق فمه, وبفضل كثرة تدخينه لسكاير (ممتاز ملوكي)، وكانت السيكارة الأرقى، إذا ما قورنت  بسيكارة (تركي) و(غازي) العراقية الإنتاج، حصلت على جوائز كثيرة، فالشركة المنتجة عملت على إجراء سحبة على أرقام العلب المباعة، من أجل الترويج. وكنت اللامدخن الفائز بجوائزها! وعلى الرغم من هذه الإغراءات المادية لم أدخن سيكارة واحدة، ومازلت حتى يومنا هذا. وذلك لانزعاجي من روائحها وكثرة دخانها، فضلا عمّا تخلفه من رائحة كريهة تلتصق بيد كل من يدمن على تدخينها.

 وهكذا استمر الحال اكره السيكارة ولا أدخنها، لكن السنين تمر واعداد المدخنين من حولي تتصاعد، وبعد أن كانت السيكارة الأجنبية الوحيدة هي الـ(كريفن) أو (أبو البزون) كما أطلق العراقيون عليها، لوجود صورة قطّ على غلاف العلبة, أصبحنا الآن نستورد منها ما لذ وطاب للمدخنين، الذين تكاد نسبتهم تتجاوز نسبة مَن يقرأ ويكتب من عموم الشعب العراقي! فهناك الروثمان, والفايس روي, والدنهل.. إلى آخره من العلامات والماركات، فضلاً عن ابو البزون والسكاير العراقية.

في الاردن اجابني رجل، عندما حذرته من شرب السكائر لانها ضرر على الصحة واستنفاد لما في الجيب، أجابني: إن أربعين عاما من عمره مع السيكارة افضل من ستين عاما بدونها, وعندما كنت انتظر باص الجامعة في عمان كان هناك احد منظفي الشوارع يجمع اعقاب السكائر، عندما اقترب مني كان ما جمعه من اعقابها يملأ شوالاً منها!.

قبل مناقشة طالب الدكتوراه الموصلي الذي اشرف عليه بيوم واحد من موعدها، رجاني أن اسمح له بالتدخين اثناء المناقشة, ضحكت وسألته ان كان ذلك ضرورياً, أجاب انه سيترك المناقشة ويتنازل عن الشهادة في سبيل السيكارة!, احد الأساتذة الكبار من الزملاء، كان مدمناً على التدخين، وعندما اصابه سرطاناً في رئته، مُنع عن التدخين قسراً، شاهدته بعد أشهر من ذلك، وحين سألته عن صحته, قال لي: سيئة , فسألته: لماذا؟ قال: لأنهم منعوني من التدخين فمرضت! أليس ذلك عجيباً؟.. بعد شهرين توفى بسبب سرطان الرئة، لان السيكارة لم تبق من رئته شيئا إلا وأحرقته.

 احد الزملاء كان يحاضر معي في جامعة صلاح الدين، في اربيل, كنا نسافر اليها أسبوعيا, ألاحظه، قبل ركوبنا السيارة، يخرج واحدة من الحقيبة ويشتري اثنتين (وجيب شخاط وورث جكاير) حتى وصولنا اربيل يكون قد استهلك علبتين، وعند الوصول يقول انه لم يدخن سوى سيكارتين! والحقيقة إنه كان دخّن علبتين.

 عند زيارتي، قبل أيام، لمدينة بيروت، في دورة ادارية, اعلمني منظم الدورة بأننا بعد انتهاء المحاضرة، ليلاً، سنذهب الى احد المطاعم الجبلية، حيث الهواء العليل، فضلا عن كونه مطعما مميّزا بتقديمه المقبلات اللبنانية الشهيرة جداً، ومطلا على مدينة بيروت الجميلة, فرحت جداً بالخبر، وكذا من كان معي من العراقيين لأننا سئمنا أنواع وجبات الطعام في بغداد: القوزي , والبرياني, والدليمية, والدولمة, وتشريب اللحم أو الدجاج (ولاحقــًا سوف اخبرك عزيزي القاريء عن تشريب مدينة البصرة) على كل حال انتهت المحاضرة وصعدنا السيارة في رحلة استغرقت ساعة، وعند الوصول ترجلنا من السيارة ودخلنا المطعم، ويا لها من مفاجأة، بل ذهلت لهول المفاجأة..كان المطعم غاصا بالشيب والشباب؛ صبايا وصبيان، كلهم يدخنون، نصفهم سيكارة أو سكائر (هافانا) أو (سبيل) والنصف الآخر يدخن الاركيلة (الغرشة) كما تسمى سابقــاً في العراق, سألت: ما الخبر، مفخخة ام حزام ناسف؟! قالوا: لا هذا، ولا ذاك، إنه ليس أكثر من دخان السكائر والاركيلة! صحيح أن المقبلات كانت لذيذة، ولكن دخان السكائر والاراكيل افسد تلك المتعة، فلا هواء نقي ولا هم يحزنون…

 عند زيارتي انكلترا قبل سنة بالتمام كان رفيقي العراقي يلتهم السكائر لهماً, وحيث كان التدخين ممنوعاً في كل مكان تقريباً عدا المكانات المخصصة لها لذلك كان يهرول مسرعاً لاقرب ركن أو كشك خصص للتدخين فيلتهم السيكارة ودخانها ويستريح في زيارتي الاخيرة لبولونيا وجدت الحال كما هو في انكلترا حيث في كل محل عام يوجد ركن للمدخنين اما في الشوارع فتوجد اكشاك خاصة لهم, بعد هذا كله عرفت كيف الدول المتقدمة تحافظ على صحتها العامة وصحة ابناءها الخاصة وتعمل بمثلنا العربي المشهور ( الوقاية خير من العلاج) وبما ان وزارة الصحة لدينا لطالما اصدرت البيانات والنداءات والتحذيرات عن مخاطر التدخين ولا من سامع ولا مجيب, ولغرض تسهيل الامر على كلا الجهتين ولكي نسلم نحن غير المدخنين من محرقة المدخنين, وبما ان عراقنا زاخر بالمحلات التي تدلك على طبيعة نشاطها وروادها ومنها مثلا جايخانة, بانزين خانة , نفطخانة , زورخانة, دبخانة , سرجخانة, اكزخانة, لذلك اقترح على وزارة الصحة وامانة العاصمة والبلديات في المحافظات والاقضية والنواحي انشاء اكشاك ومحلات ومحلات خاصة للمدخنين (سيكارة أو اركيلة – غرشة- أو بايب , أو جروت أو سبيل محشواً فيه سيكارة مزبن أو ابو البزون أو سيكارة تتن لف) سواء في المحلات العامة أو الشوارع العامة ويطلق عليها (مجكر خانة) لتدلل على طبيعة نشاطها وزبائنها اسوة بالمحلات الخانة التي ذكرتها سابقـًا , ولو اجرت هذه المجكرخانات على وفق احكام قانون بيع وايجار اموال الدولة لوفرت امانة العاصمة والبلديات اموالاً تكفي لتبليط شوارعها المملوءة بالحفر والمطبات (عفوًا حفر خانة).

 

أ.د. ماهر موسى العبيدي

أكاديمي عراقي

 

 

»

اكتب تعليقا