اهلا بكم
اهلا بكم
بحث في الموقع

المحاصصة والمخاصصة

 

 ليست لي والسياسة علاقة ، ولن احترفها ابداً ، ولست راغباً ـ في مقالتي هذه ـ في الخوض في غمارها ، فللسياسة هواتها ومحترفوها ،وفي الوقت الذي احرقت السياسة في بلدنا هواتها ، أغدقت على محترفيها بشتى النعم . وكما هو الحال في كرة القدم يبقى ( الهاوي ) مخلصاً لمبادئها وأخلاقها، في حين قد (ولا أعمم معذرة) يكون الكثير من محترفيها عارفين بقواعد لعبتها بإتقان ، فيستطيعون ( الزوغان ) أو الإفلات من مخاطرها ، جاهزين تماماً ـ للغرف ـ من منافعها من القدم حتى الرأس (واحياناً أعلى بكثير من الرأس).

في بلدنا ، وبعد ستين سنة من مراقبتي ومراجعتي لكثير من الوقائع والاحداث ، لم أجد احتراف السياسة (وهذا رأيي الخاص) إلاّ سلّماً للتسلق والركض وراء سلطة ، أو ولاية لأسباب شتى ، أهمها : المال ، ثم الجاه ، ثم مآرب اخرى .

ولكن لو تراجع ـ عزيزي القاريء ـ معي أي مرحلة من مراحل حياتك في بلدنا هذا ، وتتذكر احداثها ، تجد أن هواة سياستنا قد صمدوا وأخلصوا لمبادئهم ، وكانوا ـ غالباً ـ  أصحاب رسالة وأهداف ، يعتقدون (وأغلبهم على حق) أنها هي السبيل الامثل لخدمة البلد ، ومسيرته باتجاه الازدهار والتقدم والمستقبل السعيد ،أو قد يكون نحو وطن حر وشعب سعيد ( مع الاعتذار للحزب الشيوعي العراقي لأن هذا هو شعاره الذي عنه لا يحيد).

في العهد الملكي لم تكن هناك محاصصة ، بل كانت مخاصصة ، استحوذ فيها حزبان على دفة ادارة البلد ، وكانا ـ في الحقيقة ـ يمثلان عدداً من العوائل والعشائر ، ويعملان بمناهج واضحة لتحقيق أهداف محددة ، تتلخص في اللهاث نحو المغانم .

ثم انتهى ذلك الحكم ، الذي لا أريد الاسهاب في ذكر مفاسده ومساوئه ، بل اكتفي بتذكير كل ذي عمر مديد ، بما كان عليه حال شعب هذا الوطن الفقير في عيشه ، الغني بموارده.

بعد سنوات ثورة 14 تموز 1958 ، انتهت المخاصصة وبزغ علينا فجر جديد ذو هدف ومنهج واضح ومنير، واستطاع ثوار تموز الالتزام بهذا المنهج ـ حتى بعد انفراد قائدهم الزعيم بالسلطة ـ فاختفت اثار المخاصصة ، ولم يظهر أي اثر لها ، إذ لا ضرورة لعودتها ولا أسباب ، وحتى حين سيطر الحزب الشيوعي على جهاز الدولة ، في السنة الاولى من عمرها ، من خلال تولي بعض أعضائه قيادة بعض مؤسسات الدولة ، لم يظهر أي نفوذ في توجيه الامور نحو قرارات الحزب الشيوعي أو ما كان يخطط له من أهداف ، ولم يستطيع فرض أي محاصصة او مخاصصة .

وبعد الحكم القاسمي (كما يسمى) وبدء الحكم العارفي ( كما يقال ) ، لم تكن هناك أي محاصصة او مخاصصة ـ والله على ما اقول شهيد ـ وإن كان يشار الى ذلك همساً ، ولكن الامر لم يكن حقيقة ، بل كان المعيار الأهم والأوحد للوطنية ـ ومنذ ثورة 1958 حتى سنة 1968 ـ هو الاخلاص للوطن وتربته الطاهرة وشعبه العظيم (المناضل والكادح والصبور … الخ) لذلك كانت أمور السياسة ، وإدارة الحكم ، وشؤونه الداخلية والخارجية مناطة بكفاءات مناسبة ، شعارها وهدفها الوحيد ، خدمة البلد بأفضل سبيل ، وكان تسلم المسؤولية والادارة تكليفاً لا تشريفاً ،أما النزاهة فهي عالية المستوى ، والكفاءة ـ غالباً ـ جيدة جداً ، أما الانضباط فكان ـ غالباً ـ متميزاً.

بعد عام 1968 وانقلابه الشهير ، كانت بداية الحكم وتوجه ثواره أو انقلابييه في البداية نحو الوطنية والنزاهة والاخلاص ، وغيرها من الشعارات البراقة أو الطنانة ، ولكن ـ وبعد مضي عام واحد ـ بدأت قيادة الحزب والثورة بتطبيق مبدأ المخاصصة ، فوجهت الأمور نحو الحزب ، وأعطت زمامها لثورييه ورفاقه .

وما أن انتهى العام الاول حتى أدرك الجميع ان الحكم وقيادته ، والدولة وشؤونها ، ومؤسساتها وأمورها أصبحت مخاصصة لهذا الحزب القائد وأعضائه ، سواء علا مستواهم في التنظيم أم دنا ، وليس لأبناء الشعب ـ سواء أكانوا من منتسبي الدولة ام المتعاملين معها أو المتفرجين عليها ـ سوى الفتات ، وإن أرادوا أكثر من ذلك ، فليس عليهم سوى المجاملة والنفاق او ( تبويس اللحى ) أو الأيادي ، أو الادعاء بأنهم من خاصة هذا أو ذاك ، حتى انتهى وضع تلك المخاصصة الى مخاصصة اضيق ، وأكثر تركيزا ، تمثلت في مخاصصة ذلك القائد الفذ وعبقرياته الفريدة ، فأمسينا وأصبحنا نحكم وندار بمخاصصة عائلة واحدة من عدة أنفار ،تتولى إدارة الامور ، لا بل حتى رقاب ملايين من الناس .

انتهى ذلك النظام وتنفسنا الصعداء ، وقلنا ان الخير آت ، وبين تخبطات بريمر الامريكان وحداثة عهد الاخرين في ادارة السياسة والبلاد ، توصلنا الى دستور لقى الترحاب ، يؤكد أن المحاصصة هي مفتاح الجنان والبلسم لكل داء ، فقلنا أبشر بها خير دواء لمزمن داء ، فحلت المحاصصة بدل المخاصصة وبان حجم وثقل كل من يدعى أو يقال ، ولم يمض عام أو عامان حتى بدت واضحة للعيان انها محاصصة من نوع خاص ، ظاهرها محاصصة وباطنها مخاصصة حتى النخاع .

أين الكفاءة ؟ واين القدرة ؟ واين الخبرة ؟ وأين الشهادات ؟ فالمسؤولون ـ من أعلى مستوى حتى القاع ـ عند استلامهم للمهام لا قدرة ولا اهتمام ، بل ـ غالباً ـ كلام في كلام ، لو جمعته لاعتقدت أنه اطنان ، ولو وزنته لظهر لك انه غرامات.

اين مصلحة الوطن ايها الاحباء ؟ اين الرجل المناسب في المكان المناسب؟ اين النزاهة والكفاءة والاخلاص ، ومفوضية النزاهة تتكلم غالباً عن اختلاس المليارات ؟ اين الضبط والربط والانضباط ؟ اين التواجد في النهار والسهر في المساء حتى تحل المشكلة وينتهي الاختناق ؟ اين الخوض في محيط المشكلة حتى الركاب (الرجاب) لتنتهي المشكلة او الازمة وتنتهي الاهات؟ اين المسؤول المحاصص او المخاصص الذي يبكي ان لم يحقق ما وعد  الناس به من شام وشمام؟ اين ذلك المحاصص والمخاصص الذي يستقيل ان ثبت له انه فشل في تحقيق الاهداف؟

وحتى لا أطيل عليك ـ عزيزي القاريء ـ المقال والكلام ، أقول : انه فقط ذلك المسؤول المخلص الذي يؤمن بأن الانتماء للوطن هو الاساس ، والذي يرى ان العراق وشعبه على الرأس.

 انه فقط ذلك الذي يأتي من لامحاصصة ، ولا مخاصصة ، بل من الوطنية والاخلاص.

 

أ.د. ماهر موسى العبيدي

أكاديمي عراقي

 

 

»

اكتب تعليقا