اهلا بكم
اهلا بكم
بحث في الموقع

فلوس ونفوس

 

دفعتني ذاكرتي إلى مشهد يوم يعود إلى عام 1950 عندما كنت طالباً في المدرسة الوحيدة في قريتنا في المرحلة الثالثة، اجلس على رحلتي استمع بشغف إلى معلم الرياضيات الذي كان يشرح لنا بصوت عال موضوع الفئات النقدية ( فلس، عانة، عشرة فلوس، عشرون فلساً، خمسون فلساً، … ) وكان كلامه يتغلغل إلى عقولنا وقلوبنا بعد أن تعيه الآذان، وكنا نحن الطلبة ساكنين لا حراك بنا كأن على رؤوسنا الطير، وفي هذه اللحظة التي كنا فيها خارج حدود الزمان والمكان إلا زمان الدرس ومكان، فإذا بمفوض الشرطة في المنطقة يدخل علينا فجأة ليصرخ بوجه المعلم بسذاجة لا تخلو من نقاء سريره :- ما هذا الذي تعلمه لهؤلاء الأطفال ؟ ما الفلوس ؟ أليست وسخ الدنيا يا أستاذ ؟ فأجابه المعلم إجابة الكريم الحكيم :- نعم يا أخي إنها وسخ الدنيا مثلما تقول ولكن ما العمل ؟ أليست وسيلة من وسائل العيش وعلينا أن نعلمها أبناءنا ليكونوا على دراية باستعمالها وإلا فماذا تقول ؟ لم تسعف المفوض ثقافته المتواضعة ليرد على الأستاذ، فانصرف انصراف العاجز عن الرد، وظل هذا المشهد شاخصاً في خاطري، وكنت أسأل نفسي عندما كنت طفلاً كيف إن هذه الفلوس التي نشتري بها الحلوى، نتمتع بألوانها، ونستلذ بطعمها هي وسخ إلا إن هذا السؤال أجابت عنه سنوات العمر التي عشناها على ارض هذا البلد الكريم وبين أهله النجباء اجابة نراها ونعيشها، فنحن في العراق لم نكن لنعير أهمية بالغة في حياتنا للفلوس حتى السبعينات من القرن الماضي وكان معظم الناس يدركون إنها وسيلة لا غاية وان عماد الإنسان صفاء نفسه، ونقاء سريرته، ورصيد محبة الناس وكانت القناعة ثوباً كاسياً جميلاً يرتديه من كان في وظيفته أو صاحب مهنة أو حانوت أو متجر أو زراعة، وما كان الحديث عن الفلوس غاية إلا عيباً فاضحاً تشمئز منه النفس وتعافه، وعلى خلاف ذلك كانت النفوس تهش وتبش لكل طيب كريم عفيف لا يرى الفلوس إلا أداة لخدمة الجانب الروحي لديه، وكانت النظرة إلى الفلوس وبإختصار شديد بأنها وسخ الدنيا .

ولكن ….

وبعد ثلاثين عاماً مرت على بلادنا وشعبنا، توالت فيها طعنات النظام السابق الواحدة تلو الأخرى لتصيبنا في أخلاقنا وقيمنا ومبادئنا فأصبح معظم الناس لا يأبه بخراب النفوس إذا ما كانت الجيوب مليئة بالفلوس، أما طيب النفوس الذي كانت حياتنا متشربة به فأصبح حلماً جميلاً يراود كل ذي خلق رفيع، يبهجه رقي النفوس لا بريق الفلوس .

 

أ.د. ماهر موسى العبيدي

أكاديمي عراقي

 

 

»

اكتب تعليقا