اهلا بكم
اهلا بكم
بحث في الموقع

المرحوم الدكتور متي عقراوي مؤرخاً ومربياً

 

سمعت به, اول ما سمعت, انه كان (رحمه الله) اول رئيس لجامعة بغداد عند تأسيسها سنة 1957, وهي اول جامعة في العراق الحديث, وعندما التحقت بهذه الجامعة موظفـًا وطالبًا سنة 1958, عرفت من خلال ما كان يتناقله الاداريون في رئاسة الجامعة الذين عملوا معه وعرفوه عن قرب بانه كان يفكر ويخطط لهذه الجامعة لان تكون من ارقى الجامعات في المنطقة على المستويات كافة علمية ومهنية وإدارية, ومما علق في الذهن اني سمعت مسؤول الادارة في الجامعة انه (رحمه الله) اشترط لتعيين عامل الخدمة فيها ان يكون حائزًا على شهادة الاعدادية, وهذا شرط له دلالاته الكبيرة وانعكاساته الادارية المتميزة, فالعاملون في هذه الجامعة مهما كانت طبيعة العمل الذي يؤدونه, ينبغي ان يكونوا متعلمين يحملون قدرًا مقبولاً من الثقافة يمكنهم من اداء اعمالهم بصورة حسنة تليق بالمكان الذي هم فيه.

وعلى امتداد السنوات الخمسين الماضية لم يرد ذكر هذا المؤرخ الكبير والمربي الفاضل الا بالتقدير والاحترام لمساهماته العلمية والتربوية في العراق قبل تسنمه ذلك المنصب او بعد تركه مغادرًا العراق ليعمل في جامعات ومنظمات تربوية عربية واجنبية كثيرة , فقد كان علمًا في ميدانه بارعًا فيما يفكر ويكتب وينفذ في ميدانه الواسع الرحب.

فرحت كثيرًا بلقاء شقيقته الدكتورة سلوى, وحدثتني عن الكثير مما تميز به شقيقها المرحوم الدكتور متي, وما قدمه من عطاء علمي ثرٍ في مجال اختصاصه الرئيس وهو التربية, وكيف كانت مساهماته رصينة وفعالة في خدمة التربية والتعليم في العراق والوطن العربي والعالم اجمع.

وفي الكتاب الذي نشرت فيه مقالات متعددة لزملائه ومحبيه, اشادة كبيرة بارائه واعماله ومساهماته وقد زاد اعجابي به عندما اطلعت على افكاره المتوقدة المتجددة الحديثة, التي ما زالت مؤسسات التعليم العالي تجهد نفسها في سبيل بلورتها للوصول الى اهداف واستراتيجيات لم توفق في الوصول اليها الى الان, بينما كان المرحوم متي عقراوي قد توصل اليها وبشر بها منذ زمن , واسوق للقاريء العزيز بعضًا منها:

كان متي عقراوي ابن ولاءات متعددة, التقت في شخصيته وفي اعماله من دون ان تتنافر او تتصادم, بل كان العكس من ذلك, اذ تفاعلت ولاءاته بايجابية وتخاصب مثرٍ.

كان ابن العراق فتقلب في مناصبه التربوية, ابتداءً من التعليم الابتدائي الى ان اصبح اول رئيس لجامعة بغداد, واعطاه من عقله وقلبه ونفسه كل ما استطاع, وظل متعلقًا بالعراق حتى بعد ان اصبح بعيدًا عنه, وظل امينًا لتطلعات شعبه واثقًا من امكانية نموه وقدرته على النهوض واحداث الاثر الكبير في الميدانين العربي والعالمي.

واذا قيل (طالبان لا يشبعان, طالب العلم وطالب المال) فشتان ما بين الطالبين, ولاشك بان متي عقراوي كان من النوع الاول كيف لا وان طالب العلم يزداد عطاءً وبهاءً كلما مر عليه الزمن, وهذا ما تميز به هذا الاستاذ الجليل, اما طالب المال فيكفي ان نتذكر ما قاله الامام علي (عليه السلام) لنعلم نصيب الانسان مما يملك, فهو يقول : ((ولك من مالك ما اكلت فافنيت وما لبست فابليت, وما تصدقت فابقيت, وما عدا ذلك فهو لغيرك)).

يرتفع طالب العلم فوق العامة بشكل بارز فهو اشبه ما يكون بالمولد النووي الذي يعطي وقودًا نوويًا اكثر مما يستهلك, وقد عرف بالمولد النووي السريع وهو اعجب ما انتجه دماغ العلماء.

وهذا عالمنا الجليل متي عقراوي قد انتج كثيرًا قياسًا بما اخذه من اساتذته, فبرهن على قدرة العالم غير المتناهية.

لقد تمتع عقراوي مربيًا وانسانًا بمؤهلات قلّما تتوافر لسواه , ومن اهمها:

1-   الصدق والامانة والايمان.

2-   الذكاء الخارق الى جانب العلمية والموضوعية.

3-   الايمان بالديمقراطية والحرية والحوار الموضوعي الهادئ.

4-   الإيمان بالقومية العربية والولاء الوطني.

5-   شمولية ثقافته وتنوعها.

 

اما اهتماماته ومنجزاته التربوية فكانت كثيرة متعددة منها:

1-   تحديث التربية ورفع مستواها.

2-   العناية بانتقاء الاساتذة الاكفاء لمعاهد اعداد المعلمين.

3-   بث الروح الوطنية والولاء القومي.

4-   الاهتمام بشؤون الطلاب ولاسيما طلاب معاهد اعداد المعلمين.

5-   الزامية التعليم.

 

والمستقبل الذي تصوره متي عقراوي للبنان وللعرب وللانسان العربي عمومًا ليس مستقبلاً تصادميًا مبنيًا على الطائفية والعنصرية, وانما هو مستقبل تعاوني تضامني توافقي, لذلك حاول ان يجعل التربية المستقبلية انعكاسًا لهذه المعاني, وان المستقبل الذي اراده هذا الرجل الفاضل مستقبل قوامه العلم والتكنولوجية والالة, ومن ثم فان التربية الملائمة تعد من اجل التعامل مع قواعد العلم وما تتطلبه التكنولوجية والالة من انضباط ودقة وجد ومثابرة وتعاون.

وتلفت النظر في كتاباته قضيتان اغتنم هذه الفرصة للاشارة اليهما اشارة خاصة. القضية الاولى هي قضية اللغة. فهو يصوّر الانسان العربي (متقنًا اللغة العربية الفصحى احسن اتقان مجيدًا للغة اجنبية حديثة عالمية, واسع الثقافة, ذا ذوق جمالي ..) لقد ادرك متي عقراوي ان اللغة العربية الفصحى هي الاداة المثلى للفكر العربي والرابط المشترك بين ابناء العروبة في كل مكان.

وهو في ذلك منسجم في فكره مع دعاة القومية العربية ومدرك لاهمية دور التربية في تعزيز الروابط بين اجزاء الوطن العربي, ومن اعظم هذه الروابط شأنًا اللغة العربية الفصحى. لقد تنقل متي عقراوي بين مختلف الاقطار العربية وخبر ما للهجات المحلية والعامية من اثر سلبي على التفكير العلمي كما لاحظ انعكاس اللغة العربية الفصحى على سلامة الفكر العربي ودقته, فاذا بمتي عقراوي داعية من دعاة الفصحى لمواجهة الجنوح الى العامية عند بعض المكابرين من اعداء الروابط التي تجمع الشعوب العربية في بوتقة ثقافية متجانسة.

وقد لا تكون وحدة اللغة كافية لجميع الشعوب في توجه قومي واحد خاصة بين الدول العربية الحريصة كل منها على استقلالها السياسي, غير ان الجامعة الثقافية العربية ستبقى ضمانًا لهذا الاستقلال ومصدر قوة ومنعة لكل دولة من الدول العربية. وكذلك كان من الضروري ان تساعد هذه الرابطة الثقافية على انشاء روابط اخرى على مختلف الاصعدة تحقيقًا لامال الامة العربية ودولها في الاسهام بقدر وفير في الحضارة الانسانية المعاصرة.

ومع اهتمامه باللغة العربية الفصحى لفت الدكتور عقراوي النظر الى اهمية تعلم اللغات العالمية الاخرى لما لذلك من فائدة تجنى على كل صعيد. ذلك ان المثقف العربي الذي لا يتقن الا لغته الام لا يمكن ان يعتبر مثقفًا بل قد يعتبر اميًا اذا ما قيس بالموازين العالمية في هذه الايام . والمثقف العربي الذي اتقن لغته العربية الفصحى لا يخشى عليه بعد ذلك من الاستلاب الثقافي اذا هو اتقن لغة اجنبية عالمية الى جانب لغته العربية, بل اللغة الدخيلة ستوسع افاقه وتفتح له ابواب المعرفة من جهة , وابواب الرزق من جهة اخرى. ولئن اصبحت هذه الافكار اليوم من البديهيات فان اراء متي عقراوي قد اسهمت اسهامًا جليلاً في جعل هذه الافكار كذلك.

وبعد هذا الذي ذكرته واقتبسته عن هذا المربي الجليل (رحمه الله) اقول ونحن في زمننا هذا احوج ما نكون الى رجال من هذا الطراز نتخذهم قدوات لنا, ومن الجوانب الاخرى في شخصيته التي تدعونا الى التوقف هو انه مسيحي احب الاسلام واحترمه ايّما احترام, وهو الكردي الذي احب الامة العربية وخدمها افضل خدمة, وهو العراقي الموصلي الذي خدم العراق والامة العربية والاسلامية اجلّ خدمة في مجال الفكر التربوي والتاريخي , وهو الذي عاش محترمًا في لبنان , ولكن لم ينس بلده العراق, حتى وان جار عليه (كما اعتقد).

اننا في ما ذكرناه من شذرات ادبه وعلمه وامكاناته الادارية الجامعية الفذة تدفعني الى ان ادعو قياداتنا الجامعية والتربوية لتكون بمستوى هذا العالم الجليل لتحقيق الاصالة والرصانة فيها.

ومع كل ذلك فان ذكراه اختصرت في صورة له علقت في مجلس جامعة بغداد التي كان اول رئيس لها, انني ادعو مخلصًا ان تقوم جامعة بغداد  ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي الى تخليد ذكراه بافضل ما يمكن لتدل على الوفاء والاحترام لهذا الانسان الذي اعطى فأجاد وضحى وابدع , لتبقى ذكراه خالدة في اذهان الاجيال من خريجي هذه الجامعة وهذه الوزارة.

 

أ.د. ماهر موسى العبيدي

أكاديمي عراقي

 

 

»

اكتب تعليقا