اهلا بكم
اهلا بكم
بحث في الموقع

النفاق الإداري وأثره في الفساد الإداري

    ينبغي قبل البدء بخاطرتي هذه  أن أشير إلى قول الله عز وجل في محكم كتابه العزيز، في سورة المنافقين الاية(4)، اذ ورد فيها ” وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة…” صورة فنية قرآنية تجلّت فيها أدق المعاني وأبلغ الالفاظ تعكس هيئة المنافق وحقيقته. وفي خاطرتي هذه سأتطرق الى ظاهرة النفاق الاداري في مؤسسات الدولة العراقية: نشوؤها، ونموها بوصفها ظاهرة سلبية، لها اثر كبير في سوء الادارة وتردي الاعمال في مؤسساتنا. وكيف كان ومازال النفاق مؤثرا رئيسا في شيوع ظاهرة الفساد الاداري في مؤسساتنا الحكومية منذ عشرين سنة مضت حتى يومنا هذا، وهي تدب ناخرة في جسد الجهاز الاداري للدولة العراقية، وقد تستمر الى أن يفرج الله!

   لم تكن ظاهرة النفاق الاداري شائعة في مؤسسات الدولة منذ التحاقي موظفاً في هذه المؤسسات، في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، بل كان جميع موظفي الدولة يدركون اعمالهم ومهامهم، ونظامها المؤسسي، فضلاً عن ذلك لم يكن أغلبهم او جلّهم ساعيا الى تسلق الوظائف ودرجاتها ومناصبها بالقفز عليها أو إليها؛ لانهم جميعاً ليسوا طلاب ولاية وانما طلاب رزق حلال يحصلون عليه بعرق جبينهم، وبادائهم المتميز الكفوء الذي يحقق لهم العلاوة السنوية التي كانت تمنح حسب احكام القانون؛ ولم تتخط الدينار او الدينارين، ومن ثم يحصل على الترفيع بعد ثلاث، او اربع، او خمس سنوات من العمل المتميز والكفوء والنزيه.

هكذا كان أغلبهم صابرا، مؤمناً بأن الوظيفة والدرجة الاعلى لا تمنح الا للمتميز المستحق لها، لذا كانوا يحرصون على الاداء المثابر والمميز ليحصلوا على العلاوة والترفيع، الأمر الذي يؤكد سيادة روح التنافس الفعال بين زملاء الوظيفة، فدرجة أو درجتان تنافسيتان تؤهل الافضل للانتقال الى مرتبة وظيفية أعلى، بهذه الروح التنافسية الصحيحة بنيت المؤسسة العراقية، لكن تغيرت الاحوال بعد تغير الاوضاع، وجرى ما جرى من انقلابات و ثورات! لاسيما إنقلابا شباط 1963 وتموز 1968، وما ترتب عليهما من متغيرات وحروب حشد لها الشيب والشبان،  وأحرق فيها الاخضر قبل اليابس، وكان من نتيجتها ان بدأ الترغيب والترهيب يمثل القاعدة في تشكيل الولاء وتسيير الاداء، اتخذه الكثير (مصعدا) لغرض تسلق السلم الوظيفي بسرعة لا تخضع لما يقتضيه القانون العراقي بأحكامه وشروطه، هكذا رأينا من تسلّم منصبا قياديا لم يكن ليحلم به، ولم يكن ليستطيع الوصول إليه الا بعد عشرين عاماً من عمل متدرج مضنٍ ومتميز.  وازاء حيرة زملائه الاخرين الذين لم يقوّم اداؤهم المتميز والنزيه الكفوء ، كان لا بد من شيوع  البحث عن طريق آخر، بدلاً من الاستمرار في ذلك الطريق القويم الذي لم يوفر لهم سوى بضعة دنانير نتيجة العلاوة أوالترفيع!!.

ثمّ نستطيع أن نعدّ سنوات التقشف، ومن بعدها توفر الاموال عاملين مهمين في تعزيز، أو رسم بداية جديدة للنفاق الاداري في مؤسسات الدولة.

    فبعد أربع سنوات من التقشف المميت انهمرت الاموال بفضل نعمة أو (نقمة) النفط، فبدأ سلوك اغتنام الفرص والافادة من امكانيات المؤسسات المالية الوفيرة واستغلال الكثير لهذه الحالة لتحقيق مآرب شتى أثره في شيوع ظاهرة النفاق الاداري، وتوَّج الأمر بمحاولة الكثير من المسؤولين اغتنام الفرصة للافادة من الامكانيات المالية الوفيرة وبشتى السبل، مما أدى الى نمو ظاهرة النفاق الاداري بصورة أوضح، فمن لم يستطع الحصول على الفرصة التي حققها زميله من دون وجه حق غير مستعد للسكوت عن ذلك؛ لكن ردة الفعل (عدم الصمت) تتخذ أشكالا مختلفة: فإن كان هذا المتسلق لايخيف الاخرين تناولوه بالتشريح والنقد، وإن كان ذا سلطة او نفوذ، أو من أعضاء الحزب الحاكم – القائد – يكون النقد او الامتعاض سرا وهمسا لا علناً وجهراً؛ لان ذلك (النقد) قد يفضي الى مصير مجهول.

   تمر السنون وتبدأ الحروب يتبعها بالظهور المجازر والمقابر ، من ثم يسود الارهاب من القدم حتى الرأس وينعكس سلباً في المؤسسات الادارية بتفشي ظاهرة الحسد الاداري والنفاق الاداري لمنتفعين أو متميزين زوراً وبهتاناً أو لمغتنمي فرص هم ليسوا مستحقين لها أو ممنوحي أو أوسمة وشارات ليست عن تميز وجهد وعناء ، ويختلط الحابل بالنابل في اداء هذه المؤسسات وبعد تسلم أغلب المناصب والمسؤوليات لأشخاص هم ليسوا أهلاً لها أو هم من أصحاب الولاية والتسلط على الرقاب، تبدأ الولاءات من ثم الوشايات لتتحول المؤسسات إلى جماعات أشبه بالمافيات لتنتفع وتأخذ بهيئة التملق ومسح الاكتاف في سبيل الحصول على الفتات او بعض المكافآت والايفادات من دون وجه حق ومن دون عناء لتتسع الهوة بين هؤلاء المتملقين وبين منتسبي المؤسسة الاخرين الذين يمثلون الطبقة الطيبة الكادحة، الامينة في عملها، الفاقدة إلى أبسط حقوقها من ثناء أو تقدير ، فتكبر الهوة بين هؤلاء وهؤلاء، وتهمل الاعمال والواجبات ويُطلق العنان لصفة النفاق بالتفشي والانتشار ويهبط مستوى الاداء ويختفي المتميزين والمتخصصين وذوو الكفاءات، ويبقى منهم من آثر على نفسه التضحية والالتزام حتى يفرّج الله عنهم الكرب العظيم، ويظهر الجزء الاكبر وهم أصحاب النفاق الاداري، متربصين الفرص السانحة لهم لاستحواذ ما يمكن استحواذه مادياً ومعنوياً جراء التملق والرياء . فساد الفساد الاداري ولا ينفع تدقيق ولا رقابة مالية ليتحول اصحاب تلك المؤسسات والاجهزة إلى أسود ذوي مخالب وأنياب جارحة تؤذي من يقترب منها. هذه هي الصورة التي رسمت ملامحها لتظهر بشكل جلي لعزيزي القارئ ، وإن كنت قارئي تعلم جيداً وليس خافياً عليك حال المؤسسات الادارية التي فشلت وعُرفت بفسادها الاداري.

    فإن الفساد الاداري الذي طغى في مؤسسات دولتنا العريقة بسبب النفاق الاداري وما تلاه من ضعف دبّ في دوائره وكان أبناء الشعب أول من تضرر الذين يعدّون الضحية الاولى والتي لم يكن في يدها القدرة على التغيير أو الانقلاب، ولم يكن أمامها الا التمسك بالصبر والتضرع لله سبحانه بالدعاء أن يغير حالهم وأن يخلصهم من هذا الفساد الذي استشرى في بلدهم. والله قادر على تغيير الاحوال وانهى الحال ، فاستبشر العراقيون بالخلاص أملا بتحقيق الامال وتحسن الاخلاق وانتقال مؤسسات الدولة وجهازها الاداري إلى أفضل ما كان ولم تمض سنة او بالكاد حتى عدنا الى ما كان وبدأ استلام المناصب وتولي المسؤوليات لأناس غير مؤهلين او من دون استحقاق وانما لذاك السبب او الاعتبار من دون اهتمام بالكفاءات العلمية المناسبة لهذا الاختصاص وبدأ تسلق المناصب من قبل طالبي المناصب والولايات فعاد التملق والرياء في هذه الادارات لا بل إلى أسوء مما كان . ومع كثرة اجهزة الرقابة والحسابات إلا انها مشغولة بالبحث عن الدينار وتاركة المليار التي اغتنمها هذا الوزير او ذاك – كما تتكلم بياناتها التي تدمي القلب وليس العين – او هذا المسؤول او ذاك، وبقدرة قادر تسمع انهم ليسوا في العراق بل هم أشبه بملح ذاب في كأس ماء . أعان الله شعبنا العراقي على هذا الفساد الذي احرزنا به قصب السبق فأصبح العراق أول دولة بالفساد وبعد إن كان لا يصرف الفلس من دون استحقاق صار المليار يُسرق من دون رقابة او حساب وإني إن استمريت بالكلام عن هذه الاحوال لملئت الصحف والمجلدات ولا أملك في ختام خاطرتي هذه التي اطلت فيها الكلام إلا أن ادعو ربنا جل وعلى أن ينقذنا من هذه الاحوال، ولكن ربنا اكرمنا بدينه وقرآنه العظيم التي سطر لنا فيه الاخلاق فلعلنا نهتدي بما سطرّه من احكام وتكون رقابة الضمير والاخلاق هي الطريق الوحيد للخلاص.

 

أ.د. ماهر موسى العبيدي

أكاديمي عراقي

»

اكتب تعليقا