اهلا بكم
اهلا بكم
بحث في الموقع

كم منكم يا مسؤولي العراق مثل مهندس جسر ستانجكاخ

 

خلال فترة دراستنا في بولونيا شاهدنا وأطلعنا على الكثير من الامور الجميلة او اللطيفة او الغريبة – هذا ليس بغريب فدولة بولونيا دولة قديمة لها تأريخها وثقلها في اوربا عموما وفي المعسكر الاشتراكي وحلفه المشهور ( حلف وارشو ) الذي كان نداً للحلف الاطلسي – كما ولشعبها دور كبير في الثقافة والعلوم والفن المحلي والعالمي، ولا ينسى الكثير من فناني العراق التشكيلين الدور الذي اداه مدرسو الفن التشكيلي البولوني في إثارة أو تقويم الحركة الفنية التشكيلية في العراق، المهم اعود الى موضوع خاطرتي بعد هذه المقدمة التعريفية، اذ المعروف ان كل الشعوب الاوربية وغيرها من الشعوب المتقدمة تجبر العاملين لديها على التمتع بعطلة أمدها شهر في الأقل يقضيها الموظف خارج الوطن او داخله، حيث تكثر المعسكرات والموتيلات والمنتجعات والفنادق المختلفة المستوى في جميع المناطق التي يمكن ان تكون مناسبة بجوها ومائها واشجارها وجبالها ووديانها، مع توفر جميع وسائل الراحة مع التخيفض المناسب للعمال والعاملين في الدولة وغيرها، او جميع الشعب مهما كانت انتمائاته واحزابه ومذاهبه اجتماعية او سياسية وكذلك دعم المؤسسات الحكومية بما يتناسب وارباحها ونتائج نشاطها، كما لا يفوتني ان اذكر بهذه المناسبة ان عدداً ليس بالقليل مما ذكرت من الفنادق والموتيلات هي ملك لهذه المؤسسات إذ درست الجدوى الاقتصادية فوجدت ان من الافضل ان تشتري او تنشأ هذه الاماكن فيكون الحجز او الاشغال بادارتها او بمعرفتها وسيطرتها.

وحسبما ذكرت في اعلاه كنت اخطط في سنوات الدراسة تلك لاخذ قسط من الراحة لتجديد الطاقة ومراجعة بعض اوراق الرسالة بعيداً عن الجامعة والمدينة التي اسكنها خاصة ان الاستاذة المشرفة كانت كثيرة السفر في العطل الصيفية للراحة او تلبية لدعوات من الجامعات الاوربية وغيرها من المؤسسات، فيكون لدي المجال لمثل هذه السفرات. في احد السنوات كنت راغباً بقضاء عطلة في منطقة تقع على الحدود البولونية الروسية، وعند مراجعتي شركة الحجز في المدينة اخبرتني موظفة الحجز في الشركة ان جميع الفنادق والموتيلات في هذه المنطقة محجوزة خلال الفترة التي أرغب السفر فيها، سألتها :ما هو الحل؟ إذ لم يكن لدي وقت اخر سوى هذه الفترة؟ اجابت: لدي حل انصحك ان توافق عليه . قلت: ولما لا، ما هو؟ قالت: هناك عائلة محترمة جداً في المنطقة، ولديهم (فيلا) فيها بعض الشقق يؤجرونها للمصطافين، فهل ترغب الاقامة فيها، والعائلة مأمونة من كل الجوانب ولم يقضي احد لديهم العطلة إلا وعاد شاكراً لي تلك النصيحة، قلت لها: موافق . فرتبت الحجز وسافرت الى تلك المنطقة وفعلاً كانت عائلة محترمة وقضيت فترة سعيدة وتمتعت وعائلتي بجبال وبحيرات ووديان المنطقة التي كانت رائعة.

في احد ايام تلك العطلة الربيعية سألني الابن الاكبر للعائلة: كيف رأيتم المنطقة وهل اعجبتكم؟ قلت له: بالتأكيد ، وسعدنا اكثر بالتعرف على عائلتكم . شكرني وعاود السؤال : هل ذهبت الى منطقة (ستانجكاخ) ؟ أجبته : كلا لأني لا اعرف اين تقع هذه المنطقة، اخرج خريطة المنطقة من جيبه ودلني على الطريق بسهولة ، اخبرته باني غداً صباحاً ذاهب اليها، اجاب: ان هناك جسرين في المنطقة لسكة قطار الحديد متروكان سر عليهما وستجد المئات يسيرون عليها. قلت له: سأفعل، وماهي قصة هذين الجسرين ، كيف يسير عليها القطار والناس يتنزهون ؟ اجابني: بعد ان تسير عليها وتتناول طعامك في اجمل المطاعم قرب الجسر عد الى الدار، ونادي علي ، وسأشرح لك قصة هذا الجسر. في الصباح الباكر حزمت الامر وركبت سيارتي الخاصة انا والعائلة ووصلنا المنطقة، ترجلنا وسرنا على ذينك الجسرين الضخمين الذين يربطان جبلين وعليهما سكة حديد قطار، ولكن لا قطار يسير ولا هم يحزنون، المنطقة جميلة جداً ، لا تبعد سوى بضع كيلومترات عن الحدود الروسية البولونية ، بعد المسير على الجسرين وتناول وجبة الغداء عدنا مساءاً الى الدار، وحالاً بحثت عن ذلك الرجل، ابن العائلة الكبير، خرج وقابلني وبعد التحية اخبرته: اني فعلت كما طلبت ولكن ماهي قصة هذين الجسرين؛ طلب مني الجلوس ليحدثني ، قال: تعلم يا سيد ان المانيا في بداية قرننا هذا كانت لديها تطلعات استعمارية ، وكانت دائماً تنظر صوب روسيا في تطلعاتها تلك، ولكي تستطيع الوصول الى الحدود الروسية بسرعة كانت هذا المنطقة هي الاقرب الى ذلك، ولكن هذا الوادي بين الجبلين هو الحاجز الاكبر الذي يمنع الوصول، ففكرت باقامة جسر ضخم تسيّر عليه  القطار الذي سيربطها بالحدود الروسية (والامر مشابه لخط سكة قطار برلين – بغداد) وفعلاً باشرت في انشاء الجسر وأوكل امر الاشراف الى احد اكفأ مهندسيها وبعد فترة انجز الجسر، ولغرض استلام العمل والتأكد من سلامة الانجاز، وصل المسؤول الاعلى للمؤسسة التي بعهدتها انجاز الجسر لذلك الغرض، وبعد الاجراءات الهندسية والفنية كان الجسر وبناؤه فاشلاً وغير صالح للاستعمال ، ولغرض تصحيح الامر وتنفيذ المشروع تقرر انشاء جسر اخر بجانب الجسر الاول ، وفعلاً باشروا بانشاء الجسر الثاني تحت اشراف المهندس الالماني نفسه، بعد فترة من الوقت انجز تشييد الجسر وحضر المسؤول الاعلى للاستلام وبعد اجراء الفحوص الهندسية والفنية ، كان تشييد الجسر فاشلاً ايضاً. سكت،  وسكتتّ ، فسألني: اتعلم يا سيد ماذا فعل المهندس الالماني؟ قلت له : ابتسم! ضحك محدثي وقال: لم يبتسم، بل انتحر . قلت له : انتحر!  قال : نعم ، انتحر بالقاء نفسه من الجسر الى الوادي، ومات إذ لم يستطع تحمل الفشل مرتين، حزنت لهذا المصير ولكون الانتحار في ديننا حرام ، ولكن كان له فيه مرام، فكيف فشل مرتين في تنفيذ مثل هذا المشروع الهام.

منذ عودتي الى العراق التي مضى عليها سبعة وعشرون عاماً وانا اراقب ما يجري في العراق . وكم من وزير، ووكيل ، ومدير عام، ومدير مشروع  فشل في اداء المهمة او الواجب المطلوب منه، كم مسؤول في العراق تجرأ وقدم استقالة لانه لا يستطيع القيام بالمهام ويحقق كفاية بالاداء (ولا ادعوه للانتحار كما فعل مهندس جسر ستانجكاخ لان ذلك في ديننا حرام ) كم مسؤول في ذلك النظام او بعد انهيار ذلك النظام وقيام هذا النظام ثبت فشله وعدم قدرته على تحمل المسؤولية ، فلم يبادر الى تقديم استقالته ( وليس الانتحار لانه حرام) كم من مسؤول لم يكن اصلاً اهلاً و لا مؤهلاً لاستلام هذه المسؤولية او تلك ولم يعتذر قبل ان يورط ويتورط وفي الاخر تكون اعماله خراب في خراب، كم مشروع ثبت فشله وثبت وما ثبت وما سيثبت ولم يهتز لذلك المسؤول او المدير اي ضمير، بل هو جاهز للتبرير.

هذا ولا اريد ان استرسل لان ذلك يتطلب العديد من الصفحات ولا اعتقد ان لديك قارئي العزيز الفائض من الوقت والزمان، ولكني اعود واقول كم منكم يا مسؤولي العراق  كان او سيكون كمهندس جسر ستانجكاخ ، يفضل في حالة فشله الاستقالة وليس الانتحار ؟!

ودمتم يا مسؤولينا بسلام.

 

أ.د. ماهر موسى العبيدي

أكاديمي عراقي

 

 

»

اكتب تعليقا