اهلا بكم
اهلا بكم
بحث في الموقع

الادارة البيروقراطية والادارة الشعبية

 

دخل غرفتي يوماً احد المدراء وكان يعمل معي، وبعد انتظار لكثرة المراجعين من أصحاب الحاجات، ولأنهم أصحاب حاجات، فهم يرون ويعلمون كل كبيرة وصغيرة تتعلق بحاجتهم، وليسوا عمياناً كما يقول المثل خطأً، فضلاً عن ذلك كان علي ان ابت بسرعة بكثير من القضايا المستعجلة والهامة وأرد على المكالمات التليفونية المتكررة، ولما كنت لا اؤمن باقامة الحواجز المكتبية والسكرتيرية، وغيرها من الظواهر المكتبية، لذلك كان الدخول إلى مكتبي سهل ويسير، ولكون خبرتي العلمية امتدت لفترة طويلة، فضلاً عن الاختصاص العلمي الذي يحتم الالمام بالجوانب الاقتصادية والمالية والقانونية والمحاسبية لذلك لم يكن من الصعب علي ان أبت في معظم القضايا التي تعرض علي بسهولة ويسر، يزيد على ذلك اني أرى أن المسؤول الإداري بقدر ما ينبغي ان يكون حذراً ودقيقاً  ينبغي كذلك أن يكون سريعاً بالحسم وجريئاُ، يعرف كيف يتخذ القرار المناسب في الوقت المناسب.

بعد مضي مدة على انتظاره وحسمي لأمر خمسين مراجعا وقضية خلى الكتب لدقائق، فقفز صاحبي إلى الباب وأوصدها بالمفتاح، لم استغرب من هذا التصرف، إذ توقعت انه انتظر طويلاً، ويرغب في عرض وحسم القضية التي جاء من اجلها، ولكنه بادرني بالسؤال: أي نوع من الإدارة تمارس يا حضرة الدكتور؟  فأجبته بسرعة: إنها الإدارة الشعبية يا زميلي. أجاب: يبدو أنها كذلك.

استمريت بالكلام معه، مفصلاً، أعرض عليه الفرق بين الإدارة البيروقراطية، والأخرى، التي أسميتها الشعبية، فالإدارة البيروقراطية، واضحة يدلل عليها اسمها مباشرة، وهي الإدارة التي يمارسها المدراء او طبقة المدراء المتخصصون بذلك، وهم يديرون الاعمال في تخصص وجد، ولكنهم دائماً يتولون ذلك بأسلوب غير سريع وغير حاسم، حتى مع ما يتطلب أن يكون سريع الحسم، ولكن ذلك لا يحصل بسبب الرتابة وسلسلة المراجع والقوانين والانظمة والتعليمات (وما اكثرها) ومن ثم الخوف من تحمل المسؤولية، وما أكثر التخوف من المسؤولية لان المحاسبة على التجاوز على القوانين والانظمة والتعليمات في بلدنا تقصم الظهر، حتى ان كانت هي تجيز تجاوزها، فيما يتصل بالأمور التي تتعلق بالمصلحة العامة، أو درء خطر أو أي أمر يسوغ ذلك، فضلاً عن ان كثير من مسؤولينا لا يرى نفسه مسؤولاً حقاً، كما يعتقد، إن لم تكن هناك مكاتب فارهة وسكرتيرات وسكرتيرون عدة، وبين سؤال وجواب، وبين موظفين اداريين متخصصين يفهمون عملهم يظل المراجع أو صاحب الحاجة حائراً، ولا يدري كيف، ولماذا، ومتى، لذلك لا يرى من حل سوى مقابلة – أو الاستفسار أو الرجاء – المسؤول الأعلى لعله يجد الحل عنده، وان وجده واحد وثاني وثالث، فسرعان ما يشاع ان كل الحلول لدى المدير العام او المسؤول الأعلى، ولطالما ارتاح لذلك بقية المسؤولين الادنى العاملون معه!! فما دام هو من يتحمل المسؤولية تلقى عليه المسؤولية.  وان كان ذلك المسؤول غير مستعد لتحمل المسؤولية ويرى في ذلك جهداً ومسؤولية لا مبرر لهما يبدأ بإيصاد الأبواب طالبا تصريف الأعمال بأي أسلوب كان، وعند ذاك لا حلول ولا هم يحزنون، ويظل المراجعون اصحاب الحاجة في حيرة من امرهم مبدين التذمر والشكوى لدى المراجع الاعلى بشتى انواع الادعاءات، فينشغل جهاز الدولة بالقيل والقال وكتابنا وكتابكم حتى تحسم الأمور، حينها ربما يكون الأوان قد فات، وسهل رب العباد بتسيير الحال.

 هذا ولا ننسى ان كان ذلك عاماً في جميع مرافق الدولة اصبحت دولة بيروقراطية بطبيعة الحال نتيجة هذا الأداء غير الحاسم وغير المنجز لأمور المواطنين وحاجاتهم، فيفقد المواطنون ثقتهم بها وقد يلجؤون إلى طرق غير صحيحة وغير شرعية في انجاز الأعمال، وهذا ما شاع في العشرين سنة الماضية، فكانت الدولة العراقية الأنموذج الأول في البيروقراطية والفساد .

هذا واستمريت أشرح لصاحبي معاني الإدارة الشعبية، فقلت له: تعتمد الإدارة الشعبية على اسس مهمة أكثر من الإدارة البيروقراطية التي سبق لي شرحها، وتناولتها اغلب كتب الإدارة، وإدارة الإعمال في النظامين الرأسمالي والاشتراكي، إلا أنهما أهملا الإشارة أو الانتباه إلى النوع الأهم وهو الإدارة الشعبية، لا بل ان المعسكر الاشتراكي ساهمت الادارة الاالبيروقراطية فيه بترسيخ الفساد، وقد لمست وعرفت ذلك منذ صباي بالعيش والدراسة في بلد اشتراكي. أعود لذكر أسس الإدارة الشعبية، وأقول إن أول أسسها هو الأخلاق العالية، وهذه تعني التواضع الجم، ثم البساطة في التعامل مع الـ(مافوق) والـ(مادون) في العمل ومع جميع المراجعين والمتعاملين واصحاب الاحتياج والحقوق منهم، وفي أساسها الثاني تقوم على رفع الحواجز والحجب والمظاهر البيروقراطية عموماً، فضلا عن الاتسام بالهدوء وتفهم مشاكل واعمال الآخرين، والتفكير بدفع الدائرة، المسؤول عنها، إلى الأمام، وأن لا يدعها تراوح في مكانها او تعود الى الوراء. الهدوء في اصعب الحالات او الازمات والدقة التامة في جميع المعاملات التي يتخذ بها القرار ركائز الإدارة الشعبية ولكن هذا يتطلب ممن يمارسها أن يكون جريئاً في اتخاذ القرار وتحمل المسؤولية، فهل فهمت، يا صاحبي، ما هي الادارة الشعبية، وما الفرق بينها وبين الادارة البيروقراطية؟  أجابني بهدوء: نعم فهمت.

 

أ.د. ماهر موسى العبيدي

 أكاديمي عراقي 

 

 

»

اكتب تعليقا