اهلا بكم
اهلا بكم
بحث في الموقع

المحاسبون صرافو فلوس ونفوس (بمناسبة سنة القضاء على الفساد)

 

لم يدر في خلدي يوماً خلال الطفولة والدراسة الابتدائية والمتوسطة باني سأدرس علم المحاسبة ولم يدر في خلدي حتى تلك المرحلة أيضاً بأني سأعمل يوماً محاسباً حتى اطلاعي على جريدة الزمان الصادرة في احد أيام شهر تموز سنة 1956 ( كما أتذكر)، إذ نشر فيها خبر مفاده أنه على وفق التقدم الاقتصادي وحملات الاعمار الذي يشهده العراق وانتعاش التجارة ونشاط القطاع الخاص في البلاد بفضل جهود الحكومة ومجلس الاعمار قررت وزارة المعارف ( التربية حالياً ) فتح عدد من الفروع التجارية في العديد من الاعداديات في العديد من المحافظات (الألوية كما كانت تسمى) وكانت واحدة منها إعدادية الحلة للبنين حيث كنت أسكن في تلك المدينة في ذلك الحين فقررت فوراً التسجيل في هذا الفرع لكي أمتهن التجارة التي كما كان يشاع أن جهدها قليل وربحها وفير .

دخلنا ذلك الفرع في تلك الإعدادية وفعلاً أدركت بأني فعلت حسناً فلا فيزياء ولا كيمياء بل طرق تجارة ومراسلات وأجملها درس المحاسبة، فمن الصندوق والبنك إلى رأس المال ومن المشتريات إلى احدهما بحسب واقع الحال ومن ثم منهما إلى المبيعات وهكذا دواليك إلى ميزان مراجعة الأعمال شهرياً للتحقق من صحة التسجيلات إلى حسابات ختامية في نهاية السنة أو نهاية المطاف لمدة محددة من النشاط التجاري والأعمال للوقوف على نتائج الأعمال إن كانت ربحاً أو خسارة ( لا سمح الله ) هكذا كان درس المحاسبة فضلاً عن طرق التجارة التي تعلمنا منها حسن التعامل والآداب التي لا بدّ من أن يتحلّى بها التجار وكيفية عرض محاسن البضاعة وجودتها ليكون العميل على ثقة واطمئنان وليس في ذلك من غش أو خداع لأن في ذلك خسارة للمحل وسمعته الناصعة البياض، أما المراسلات سواء كانت باللغة الانكليزية أم باللغة العربية فينبغي أن تكون جميلة الإنشاء، هكذا كانت دروس تلك السنتين جميلة غاية الجمال زادها جمالاً ذلك المدرس المصري الذي أتقن تدريسها غاية الإتقان كما كان ابن عمه الشاب في تلك المدة يشنف الأذان بأعذب الألحان .

وبعد دخولنا الكلية زادت علينا دروس الاختصاص وتوسعنا في علمي التجارة والاقتصاد وغيرها وأصبحنا بعد التخرج من المتخصصين فيها تتلاقفنا الدوائر والمؤسسات، ولم تكن هناك شعب وأقسام تلائمنا في الأعمال غير أقسام الحسابات وهكذا (طاح الفأس بالرأس دنانير ودراهم وفلسان وقاصات ) لا يجوز المغادرة إلا بعد التحقق من صحة الرصيد فيها ودقة الحساب لأننا سنلاقي أقصى العقوبات إن ظهر فلس واحد ناقص في الختام.

       هكذا كانت الأعمال في ذلك الزمان ولا أريد أن أذكر ما هو عليه الحال في هذا الزمان حتى لا يجهش المحاسبون بالبكاء أسفاً على جهودهم بالبحث عن ذلك الفلس الذي ضاع في طيات السجلات والآن لا قيمة مليارات الدنانير التي تضيع في طيات التبذير والاختلاسات أسفاً على ذلك الزمان حيث كان للمال العام حرمة واحترام وهكذا كان وما يزال المحاسبون صرافي فلوس مليارات كانت أو فلسان وعليهم الإتقان في العد والحساب أما كيف أصبحوا صرافي نفوس فأنها خبرة يكتسبونها من طول الممارسة والاحتكاك مع خليط متنوع من الناس منها زملائهم من مختلف الأقسام الذين هم أقل منهم مسؤولية أو عملاً ولكنهم متساوون معهم في الرواتب والمخصصات يوجهون اللوم لهم ( للمحاسبين ) في أي تأخر أو ارتباك في الأعمال ولا يشاطرونهم في أية مسؤولية أو التزام أو للمسؤولين الذين يطلبون منهم تسيير الأعمال بأية صورة أو مساق من دون تحملهم المسؤوليات (المسؤولون) وفقاً لهذا القانون أو ذاك بل يكتفون بالإشارة إلى موافق على وفق القوانين والتعليمات وعند إعلامهم بأن القوانين والتعليمات تتقاطع لما وجه إليهم من أوامر وتوجيهات يصبح المحاسبون محط اتهام بإعاقة الأعمال وهم العقبة في التقدم إلى الأمام، أما إذا أُحيلوا إلى المحاكم والتحقيقات قيل أن ذلك ذنبهم لأنهم تصرفوا خلافاً للقوانين والتعليمات أما المتعاملون معهم من خارج الدوائر والمؤسسات فأنهم صنفان الأول منهم نزيه ومؤدب ويحترم المحاسبين مقدراً مسؤوليتهم وصعوبة المهنة والحساب ينتظر صرف مستحقاته من دون زيادة أو نقصان ومتى ما تم ذلك شكرهم عند الانصراف أما الصنف الآخر فأنه يجيد المخالفة والغبن والزوغان ويتمنى أن تصرف له جميع الخزائن والقاصات لكن المحاسبين النزيهين ومن برعوا في حساب الفلوس وتسجيلها في السجلات بعد التحقق من صحة ذلك وفقاً للقوانين والتعليمات لا تغيب عنهم أية حيل أو مخالفات بحكم تخصصهم وفطنتهم وما نهلوا من علم التدقيق والحساب ومن كثرة ما مرت عليهم من معاملات وحالات ولكثرة ما تعاملوا مع أشخاص عفيفي النفس أو ليس لهم سوى الحصول على السحت الحرام يتحولوا تدريجياً إلى صرافي نفوس أكثر من صرافي فلوس فألف تحية للمحاسبين والعاملين معهم بشتى العناوين الوظيفية والاختصاصات بمناسبة عام القضاء على الفساد وأقول إن نزاهتهم وكفاءتهم هي أول من يحدّ من الفساد والتجاوز على المال العام وادعوا الحكومة في هذه المناسبة وهذا المقال إلى الاهتمام بهم وتعزيز مكانتهم وحمايتهم من أية ضغوط أو تجاوز في الأعمال كما وادعوا إلى تعزيز استقلاليتهم بالأحكام القانونية والمخصصات فأننا في هذا العام قد رفعنا شعار عام القضاء على الفساد ( إن شاء الله ) .

 

 أ.د. ماهر موسى العبيدي

أكاديمي عراقي

 رئيس لجنة البحث العلمي في المنظمة العربية لخبراء المحاسبين العرب

»

اكتب تعليقا