اهلا بكم
اهلا بكم
بحث في الموقع

اعتماد المعايير الكلفوية في القطاعات الخدمية عامل مهم في دقة تخطيط موازنتها والرقابة عليها

 

 كانت الموازنات المالية منذ قديم الازمان، وان اخذت هذه الصورة او تلك ولكنها كانت ضرورة لكل سلطة قامت على مر العصور، وكتب التاريخ القديم تحدثنا عن ذلك كثيراً في الحضارات السومرية او الاشورية او البابلية او الفرعونية وليس اكثر دلالة على اهميتها هو قيام النبي يوسف بتنظيم موازنة الغذاء للفرعون وبالوقت نفسه جعله مسؤولاً عن خزائنه لانه ولي وعليم.

 وفي الاسلام حيث هو دين ودولة، نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) يكلف احد الصحابة بوضع تقديرات لما سيوفر لبين المال المسلمين من اموال ، وما يجب ان ينفق منها، وفي خلافة عمر بن الخطاب وضعت تفصيلات السياسة الاقتصادية والادارية للاموال المسلمين فكان ديوان وكان التدوين اهم المنجزات المحاسبية في تلك الحقبة من صدر الاسلام، وفي زمن الدولة العباسية ،وما تميزت به من رقي وتقدم اقتصادي وحضاري، نجد هناك موازنات مالية يعدها صاحب المال غالباً، وقد تطور اعداد تلك الموازنات فاصبح صاحب بيت المال يكلف باعداد موازنات مادية ومالية، كما ولسعة الدولة العباسية وكثرة اقاليمها كانت هناك موازنة مركزية وموازنات محلية تخص تلك الاقاليم، يحول فائضها الى الموازنة المركزية ويسد عجزها في تلك الموازنة “أي المركزية” ايضاً، وكتب التاريخ والفقه الاسلامي تتضمن شروحاً مفصلة في ذلك، اما الفكر المالي الذي كان يوصف به اعداد الموازنات في تلك الفترة او تخطيطها، وهو ان التوازن عين الدقة والتدبير وان فيض الايرادات على النفقات هو دليل الكفاية في تقدير الايرادات وحيازتها والانفاق منها برشد وعقلانية، اما العجز في موازنة بيت  المال “أي زيادة الانفاق بأكثر من الواردات” فهو دليل التبذير وعدم التمكن من التصرف في الاموال برشد وعقلانية.

 ان ما ذكرته في مقدمتي هذه لتوضيح تقدم الفكر الاقتصادي المالي الاسلامي على الفكر الوضعي الغربي الذي لم يعرف تلك المبادئ الهامة لتخطيط موازنة الدولة الا بعد سيادة الفكر الاقتصادي الحر في القرن السابع عشر وما بعده اذ كان يسود مبدأ “دعه يعمل دعه يمر”، ولا علاقة للدولة بالنشاط الاقتصادي وانما عليها الاكتفاء فقط بواجباتها السيادية الاساسية فقد اكتفت بدور الحراسة وما يتطلبه هذا الدور من موازنة تغطي احتياجاتها بوصفها دولة حارس، وهذا ما جعل قواعد تخطيط  الموازنة في الدول الاوربية هي قواعد ادارية وليس كلفوية ترشيدية واعتمد في ذلك التصنيف الاداري ليتوافق مع التخطيط الاداري لموازنة الدولة .

 بعد التطورات التي حصلت في العالم الرأسمالي باعتناقها الاراء الاقتصادية الكنزية واعتمادها موازنة الدولة اداة للتدخل الاقتصادي وزيادة الانفاق الاستثماري وكذلك زيادة الانفاق الاستهلاكي على القطاعات الخدمية لتحقيق التنمية والرفاه الاجتماعي بدأت تخصيصات موازنة الدولة بالازدياد والنمو المستمرين مما تطلب البحث عن مصادر جديدة او اضافية للتمويل ومنها بطبيعة الحال ضريبة الدخل او غيرها من المصادر التقليدية، وهذا ما دفع الكونكرس الامريكي في بداية الخمسينيات الى تكليف لجنة خاصة برئاسة السناتور هوفر لوضع قوانين جديدة او تحديث قوانين قائمة بهدف تطوير وتحديث الاقتصاد الامريكي وادارته وكان من ضمن مقترحات تلك اللجنة “أي لجنة هوفر” ضرورة اعتماد اسس جديدة لتخطيط موازنة الدولة الامريكية وسميت “بموازنة الاداء” فما هي اهم تلك الاسس التي تحققها موازنة الاداء ، فهي الاتية:

اولاً: التخلي عن الاساس الاداري لتخطيط موازنة الدولة لانه يعتمد مبادئ جزافية وليس علمية كلفوية في تحديد التخصيصات المالية لانفاق القطاعات الخدمية.

ثانياً: اعتماد معايير كلفوية دقيقة تعتمدها مؤسسات القطاعات الخدمية لاحتساب مجمل التخصيصات المالية التي تحتاجها لانفاقها.

ثالثاً: عند اعتماد التخصيصات المالية السنوية المحسوبة على وفق معايير كلفوية دقيقة فان الامر يقتضي ادارة الوحدات الاقتصادية الخدمية والاستفادة من تلك التخصيصات بصورة كاملة .

رابعاً:  بعد انتهاء السنة المعنية ينبغي ان يتم التحقيق من كفاية الاداء ولاستفادة من التخصيصات المالية كلها لتحقيق كفاية الاداء الاداري وفي حالة وجود انحراف سالب بين مانفذ وما خطط فيقتضي الامر التحقق عن اسبابه السلبية “بطبيعة الحال” واجراء المحاسبة الدقيقة عنه.

اخيراً: اجراء التطوير والتحديث اللازم على النظم الادارية والمحاسبية ووجعلها تتلاءم او تتوافق مع مستلزمات اسس تخطيط الموازنة الكلفوية الجديدة، ويتوقف الامر على الجانب المحاسبي فقد كان التحول من الاساس النقدي الى اساس الالتزام كفيلاً بتحقيق هذا الغرض وهو امكانية عكس معلومات ادق عن مستوى الاستفادة من التخصيصات المالية واستنفادها لفترة عقد من الزمان حققت هذه الاسس والاساليب تطوراً كبيراً في تخطيط موازنة الدولة في العالم الرأسمالي وكانت هي الاساس وما زالت تشكل القاعدة مع تطور افضل واكثر ملائمة وتوافقاً لتطورات  كثيرة اخرى حدثت في العالم الرأسمالي “والولايات المتحدة خاصة” والتي هي ليست موضوع ندوتنا هذه ” المعايير الكلفوية ومدى الاستفادة منها في تخطيط موازنة الدولة في العراق” .

على الرغم من ان قواعد تخطيط موازنة الدولة في العراق ومنذ تأسيسها وحتى الان تعتمد الاسس التقليدية او الادارية في تخطيط موازنة الدولة، الا ان اعتماد المعايير الكلفوية كان موجوداً بصورة او اخرى في تخطيط موازنة بعض القطاعات الاقتصادية او بعض وحداتها او مؤسساتها ومنها الاتي بشكل خاص:

  1. الجيش العراقي.
  2. الشرطة العراقية.
  3. المستشفيات ، دور العجزة والمصحات وغيرها من المؤسسات المشابه.
  4. الاقسام الداخلية التي تتضمن برامج اطعام او دفع مخصصات شهرية .

5. السجون بشكل عام وفي الجيش على سبيل المثال فان الوحدات العسكرية عند تخطيط موازناتها فأنها تاخذ بنظر الاعتبار متطلباتها الاساسية من ابنية ومعدات واجهزة وغيرها ومن ثم تكون هناك معايير محددة للمستلزمات الخاصة لكل فرد.والتي هي :

  1. تجهيزات التسليح بصورة خاصة لكل فرد ” او جندي” .
  2. مستلزمات الاسكان ” او الخدمات المشابهة الفندقية” لكل فرد او جندي.
  3. تجهيز الملابس العسكرية ” غطاء الرأس ،  القمصان ، البدلات ، الجوارب، الاحذية”.
  4. تجهيزات الاطعام اليومية “الارزاق”.
  5. متطلبات النقل وماتحتاجه الوحدة من وسائل نقل وانتقال.
  6. أي امور اخرى ينبغي تهيأتها لاداء الوحدة وكفايتها.

كيف تساعد المعايير الكلفوية على دقة وكفاية تخطيط موازنة القطاعات الخدمية في العراق؟ لا شك ان الكل يسأل كيف تساعد المعايير الكلفوية على دقة وكفاية تخطيط موازنة القطاعات الخدمية في العراق. ان من المعروف ان الفصل الاول والذي يتضمن نفقات الافراد العاملين من رواتب واجور ومخصصات وغيرها تحتسب على وفق قوانين وانظمة وتعليمات متكاملة لذلك فان احتسابها بالدقة اللازمة امر ممكن فحققت وبشكل عام هو متحقق ومسيطر عليه ، ولكن اذا اخذنا الفصول الاخرى من مستلزمات خدمية وسلعية فسنرى ان تخطيطها لا يزال يتم على وفق الصيغ التقليدية ولكننا اذا انتنقلنا الى موزانة الاداء فان الامر يختلف تماماً لاننا لو افترضنا اننا في معسكر لفوج من الجيش العراقي او الشرطة او الطلاب في قسم داخلي او المرضى في مستشفى او غيرها ويبلغ عددها 500 فرد ممن يقتضي اطعامهم يومياً فضلاً عن تجهيزهم بالادوات والمستلزمات الاخرى فكيف ينبغي ان تحتسب موازنة لتلك الوحدة العسكرية.

اولاً: / الرواتب والاجور – يقتضي الامر ان يتم على وفق القوانين والانظمة والتعليمات اضافة الى 50% من كلفة الدرجات الشاغرة.

ثانياً: / المصروفات الخدمية – وتحتسب على وفق نسب ممكن ان تصيب او تقتضي ان تؤمن لكل فرد، او فني او خبير او غيرها من المجالات التي يمكن ان تصيبها او تشملها احياناً.

ثالثاً: / المستلزمات السلعية – ويتم احتسابها اما حسب المجالات التي تصيبها تلك المستلزمات وعلى وفق مقادير محسوبة او على شكل نسب محددة لكل مجال واذا اخذنا بنظر الاعتبار ان المطلوب اعداده هو موازنة هذه الوحدة نرى ان التخصيصات المالية للطعام سيتم احتسابها بالصورة الاتية:-

1. حيث ان كميات الطعام قد اعدت على وفق جدول غذائي متكامل اعد من مديرية الامور الطبية العسكرية وان مستلزمات الطعام لكل جندي في هذا المعسكر هو – 1000 دينار يومياً فاذن:

كلفة يومية / 1000 * عدد المنتسبين / 500 * ايام السنة / 365 = – 172500 دينار الكلفة ” مائة واثنان وسبعون مليون ديناراً وخمسمائة الف” .

2. اما نفقات الصيانة فيتم تحديدها على وفق دراسة دقيقة لمتطلبات الصيانة اللازمة لجميع الموجودات الرأسمالية في الوحدة.

3. اما الانفاق الرأسمالي فينبغي ان يتم على وفق حاجة الوحدة الاقتصادية الخدمية بصورة متكاملة. 

4. عند تجميع ارقام التخمينات الاجمالية المطلوبة كموازنة هذه الوحدة يقتضي احتساب الكلفة الاجمالية المتوقعة حسب طبيعة نشاط كل وحدة ومثلاً على ذلك كم  هي الكلفة المخططة للانفاق على جندي في معسكر ؟ كم هي الكلفة المخططة للانفاق على شرطي في المركز؟كم هي الكلفة المخططة للانفاق على طالب في مدرسة ابتدائية او اعدادية؟ كم هي الكلفة المخططة للانفاق على طالب في كلية او جامعة؟ كم هي الكلفة المخططة للانفاق على مريض في المستشفى وهكذا الامر بالنسبة لجميع الوحدات الاخرى ومن ثم سيشمل ذلك القطاع باكمله ثم القطاعات الخدمية الاخرى ونكون قد ابتعدنا عن قواعد تخطيط الموازنة التقليدية او الى موازنة مخططة بصورة علمية دقيقة تعبر بصدق عن احتياجات القطاعات الخدمية للتخصيصات المالية دون الحاجة للمبالغة في التقديرات للتخصيصات من قبل وحدات القطاعات الخدمية او شح في تخصيصاتها بسبب ضغوط الدوائر المختصة في وزارة المالية، ولا شك ان كفاية اداء هذه المؤسسات سيختلف تماما في حالة اقرار موازناتها وتخصيصاتها المالية بصورة صحيحة ودقيقة عن موازنة تقليدية توضع تخصيصاتها بصورة يمكن القول “انها موازنة عشوائية او جزافية” .

كيف تحقق المعايير الكلفوية في القطاعات الخدمية الرقابة على تنفيذ الموازنة؟

ان اتباع المعايير الكلفوية في تخطيط موازنة الدولة يضمن تحقق دقة في التخطيط اولاً ويضمن تخصيص مناسب وصحيح لموازنات مؤسسات القطاعات الخدمية، ثانياً واخيراً ستكون عاملاً هاماً في الرقابة عليها وفي الصورة الاتية:

اولاً: حيث ان التخصيصات المالية للمؤسسات الخدمية قد اعتمدت بكل دقة وكفاية فينبغي عليها استنفادها بشكل متكامل وفي حالة حصول انحراف سلبي او بمعنى اخر ان ظهرت نسب المنفذ اقل من المخطط، فيجري التحقق من الاسباب التي ادت الى ذلك فان تبين ان ذلك ناجم عن عدم دقة التخطيط او تدني مستوى المنفذ فان ذلك يدل على ضعف كفاية المسؤولين الاداريين في تلك الوحدات وينبغي محاسبتهم واتخاذ الاجراءات المناسبة بحقهم.

ثانياً: حيث ان الفصل الاول ، او التخصيصات اللازمة لتأمين الموارد البشرية قد وضعت بشكل دقيق، فان على تلك المؤسسات الاستفادة منها وعدم ابقاء أي شاغر منها، يعني ذلك ان تسد جميع المدارس حاجتها في الملاكات  التدريسية والادارية، وان تسد جميع المستشفيات حاجتها من الاطباء والفنيين والاداريين وان تسد جميع الجامعات حاجتها من التدريسيين والفنيين حسب النسب العلمية وهكذا بالنسبة لجميع المؤسسات الخدمية الاخرى، وهذا الامر سيضع حداً بالنسبة لاحتياجات الوحدات الخدمية الاخرى، وفي حالة عدم استفادة تلك المؤسسات من الدرجات الوظيفية والتخصيصات المالية لسد احتياجاتها الماسة التي هي حددتها يعني ذلك عدم كفاية مسؤوليها في استغلال تلك التخصيصات وكذلك استكمال توفير الافراد المتخصصين اللازم لادائها بأفضل صورة وحسبما تقتضيه اهدافها.

اخيراً: ان تخصيصات الفصول الاخرى قد احتسبت على وفق معايير ونسب كلفوية ومئوية محددة، فيجب التحقق وبصورة دورية او فصلية او سنوية في استكمال ذلك واستغلال التخصيصات المالية بكل دقة واذا اخذنا بنظر الاعتبار مثالنا السابق والذي تم بموجبه احتساب كلفة الاطعام ففي حالة وجود الجنود بصورة كاملة فستكون كلفة الاطعام مطابقة للمبلغ المخصص تماماً، اما اذا تمتع الجنود بحصولهم على اجازات او سجل عليهم غيابات فان الامر يقتضي  تنزيلها من مجمل  السحب اليومي للارزاق أي ان يكون الاطعام بقدر الحضور وليس بقدر الملاك المحدد، فيحقق ذلك وفراً واضحاً في الاموال ويسهل الرقابة عليها ، اذ لا يجوز استغلال هذه الفروقات وسحب اكثر مما يجب فعلاً للاطعام فينتج عن ذلك اما هدرا او تبذيراً في المواد المسحوبة او سرقتها او توطؤا مع المجهزين لها للحصول على فروقات مالية، وهكذا بالنسبة لبقية المواد.                

 

 

أ. د. ماهر موسى العبيدي

أكاديمي عراقي

 

                    

»

اكتب تعليقا