اهلا بكم
اهلا بكم
بحث في الموقع

الكفاءات المهاجرة وعودتها.. بين الحقيقة والخيال

 

لطالما سمعنا، عزيزي القارىء، بالكفاءات المهاجرة وأحيانا العقول العلمية المهاجرة أو غيرها من التعابير والتسميات التي تطلق على أصحاب الكفاءات وحملة الشهادات العليا، من العراقيين في الخارج، ومن المؤكد أنك لمست في تلك المقالات والندوات فداحة الخسارة وعمق المأساة التي تسببها تلك الكارثة المحيقة ببلدنا (وطبعًا بلدان أخرى) للأسف الشديد، فهذه الكارثة الناتجة من جراء هجرة هذه الكفاءات والعقول التي أنفقنا على تعليمها المبالغ الطائلة؛ سواء دنانير زرقاء أو دولارات خضراء أو باونات حمراء، ذهبت أدراج الرياح، ولم تخدم بلدها الذي انفق على تربيتها وتعليمها آلاف أو عشرات الآلاف أو الملايين، وعلى وفق دراسة ماجستير أعدت بإشرافي في كلية الإدارة والاقتصاد – جامعة بغداد ،, و ما يكاد ينتهي بذرف الدموع على هذه الخسارة الفادحة للكفاءات المهاجرة حتى تبدأ المقترحات والآراء تطرح تباعا لمعالجة هذه الكارثة، بتقديم الهدايا والمكافآت والمميزات بسخاء يفوق بكثير ما أنفق عليها بسخاء, وبطبيعة الحال اغلبها حبر على ورق فلا عودة ولا رجعة, إلا فقط ما حققه قانون عودة ذوي الكفاءات الذي أصدره النظام السابق في أواسط السبعينيات بما وضعه من هدايا وأعطيات مادية فقط، ولم يأت على ذكر أية مزايا أو اعتبارات معنوية أو علمية, ولأني لا أريد الخوض في تفاصيل هذا القانون وتقويم أحكامه، لأنه معلق الاحكام (كما اعتقد) لكن ما احتواه هذا القانون هو الإعفاء الكمركي للسيارة التي يجلبها العائد، وطبعًا لهذا مردود مادي لان الكمارك المفروضة على السيارات كانت  تصل إلى نسبة 200%  تقريبًا من ثمنها، فيغلو ثمنها في السوق، ومع تنامي قدرة الشراء للمواطنين، وبفعل قانون العرض والطلب؛ كان ما معروض من السيارات قليل، والطلب مرتفع عليها، وبهذا يكون ثمن السيارة مرتفعًا في السوق، فيحقق الكفء أو العقل العائد ربحًا في هذا الجانب إن رغب ببيعها أو أبقاها، لتكون لديه سيارة أفضل مما كان شائعًا في سوق السيارات في العراق آنذاك، الذي لم يعرف غير المسكوفج , واللادا , والفولكا , والفيات بولسكي أو الايطالي، ولتوها بدأت سيارة الكراون الياباني بالوصول, أما الأثاث والتجهيزات المنزلية فكانت غالية الثمن للأسباب نفسها، فإعفاؤها من الكمارك كان له مردود مالي مناسب. تبقى الهدية أو الأعطية الأهم، هي قطعة الأرض الذي يستطيع العائد أن يتملكها بثمن زهيد، وعليه تدبير أمر بنائها، فيبدأ بالدخول في مرحلة السلف (التسليف)؛ من العقاري، أو غيره من منافذ التسليف. فيكون البناء بشق الأنفس والجيوب إلا إذا كان ذو مال كثير، من هذا المصدر أو ذاك.

 هذا كل أو اغلب ما جاء به ذلك القانون، الذي شمل المتواجدين (الذين لم يهاجروا) من الكفاءات، لكن ليس بالصورة نفسها التي شملت المهاجرين، هل لكونهم أصحاب كفاءة أكبر أم لانهم عادوا وفاء وتلبية لواجب خدمة بلدهم الذي انفق عليهم ورباهم دون انتظار هدايا ومكافآت على عكس الآخرين الذين فضلوا البقاء في الخارج وقرروا العودة للافادة من هذه المغريات؟

 وما عدا المسائل المالية والمادية لم يتضمن ذلك القانون (حسن أو سيء الصيت) أية أمور أخرى تُذكر، وهو ما زال حتى الوقت الحاضر محط تقويم ونقاش. وبين مؤيد له ومعارض مازال معلقـًا؛ لا نافذًا ولا ملغى، فإلى متى لا احد يعلم؟.

أعود بك عزيزي القارئ، بعد هذه المقدمة عن الكفاءات وهجرتها وقانون عودتها، لأقول، وأنا مسئول عن كلامي، إن هذا الأمر، أو هذه المشكلة لم تدرس  في بلدنا دراسة علمية موضوعية دقيقة، وكل معالجاتها في نظري بسيطة عاطفية أو سطحية، فمسألة الكفاءات أو العقول المهاجرة، ليست بحجم مشكلة الكفاءات والعقول المتواجدة (المستترة) في بلدنا قانعة بما كتب لها، وفية لبلدها، راضية برواتبها ومخصصاتها، قاست وعانت الأمرين، ولم يلتفت أحد إليها، وان حصل ذلك (وهذا لم يحصل حسب علمي) إلا عرضًا ولمامًا، وليس كما هو الحال بالنسبة للتي هي خارج بلدها (بتوع برة) كما يقول إخواننا المصريون، التي تركته بعد أن أغدق عليها ووفر لها سبل العيش المناسب ما وفره من أموال، وحصلت على المكافآت أو الامتيازات المناسبة بفضل إقامتها هناك، هذه الإقامة التي ما كان لها أن تحصل عليها لولا ما انفق عليها بلدها العراق من الاموال بسخاء.

أعود لأقول: ما هي مشكلة الكفاءات أو العقول المهاجرة؟ وما هي سبل عودتها أو الإفادة منها؟ كما ولا يفوتني، كذلك، التطرق إلى مشكلة الكفاءات والعقول المتواجدة (الثابتة) في العراق، التي لا تفكر بهجرة أو (هروب) من بلدانها، وترى في أداء الواجب، والتعايش مع مواطنيها، وخدمة بلدها، وسعادتها بلقاء طلبتها أفضل وأسعد بكثير من الكثير مما يعرض عليها، أو ما يمكن أن تحققه في الخارج، إنها عقول بقيت ثابتة مستقرة لا ترغب أن تكون مهاجرة أو مغتربة أبدا، إنهم ( بتوع جوة) وليسو (بتوع برة).

واذا عدنا الى بدايات وجود هذه الكفاءات في الخارج ومشكلة عودتها، فيمكننا القول انه ومنذ النصف الاول من القرن الماضي، وبسبب قلة الكليات او المعاهد المتخصصة، وقلة الامكانيات في العراق لتأسيسها، ولعدم توفر متخصصين من حملة الشهادات العليا يمكن ان يكونوا تدريسيين فيها, مع حاجة الوزارات الاخرى الى متخصصين مؤهلين للقيام باعمال، وادارات متخصصة فيها، لجأت الدولة العراقية الى نظام (البعثات) خارج العراق، وغالبًا كانت الوجهة نحو الدول الاوربية وامريكا للحصول على الشهادات المتخصصة. تولت هذه المهمة دائرة البعثات في وزارة التربية، التي الحقت سنة 1970 بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي عند تأسيسها. كان المتقدمون الى البعثات غالبًا من خريجي الاعدادية التي كانت الدراسة فيها خمس سنوات، وليس ست, لكنهم جميعًا من المتفوقين؛ فلا محسوبية ولا منسوبية، بل معدلات تخرّج عالية جدًا، وهذا يعني أن اغلبهم من الاوائل على دفعاتهم, فكان ذكاؤهم واجتهادهم عاملاً قويًا في تفوقهم  الدراسي في الجامعات الاجنبية وبعض الجامعات في البلدان العربية، ومنها جامعة القاهرة والاسكندرية والجامعة الامريكية في بيروت.

ساهمت عوامل عدة اما في فشل قسم من هؤلاء الطلبة او في عدم عودة من اكمل الدراسة منهم، وهي: اولاً صغر سنهم، ثم صعوبة ترددهم على البلد لعدم تضمن نظام البعثات الساري في تلك السنوات لنص يوفر لهم حق زيارات سنوية لبلدهم، وفقدان الكثير منهم لحنان الوالدين، وغربتهم عن الاهل والاصدقاء دفعهم ذلك، الى الاقتران بفتيات اجنبيات, كما كان لعدم كفاءة دائرة البعثات والملحقيات الثقافية، واقتصار دورها او مهماتها على الواجبات الاعتيادية الرتيبة في حين كان ينبغي ان يكون لها دور الراعي والمربي لهم في بلاد الغربة, ادى ذلك إلى عزوف اعداد كبيرة منهم عن العودة الى العراق , اما من عاد منهم ومكث في وظيفة واستطاع ان يقاوم المغريات المادية والمعنوية في الخارج، فقد بقي وأثبت كونه كفوءا ومؤهلا للتدريس او العمل في حقل الاختصاص، وابدع في عمله وبزغ نجمه؛ استاذًا جامعيًا متخصصًا او فنيًا حاذقًا متميزًا او طبيبًا متميزًا او اداريًا، أومسؤولاً كفوءًا جدًا او غيرها, ولم تكن الرواتب او الاجور او غيرها من الماديات حافزًا في هذا التألق والبزوغ والتميز, بل كان الشعور بالوطنية والاخلاص في الواجب وتحمل المسؤولية من اجل تحقيق المبادىء والقيم التي يؤمن بها من دون النظر حصرًا لهذا الولاء بزاوية دينية او قومية او مذهبية او حزبية او ميل سياسي معين, بل كان الشعور بالواجب تجاه هذا البلد المعطاء الذي اغدق عليه المال ليكون انسانا متكامل العلم والوفاء له، والكفاءة في اداء الواجب حسب الاختصاص هو المحرك الحقيقي لهذه الطاقات الكبيرة.

إن هؤلاء العباقرة والاوفياء لأرى من الضروري، استذكارهم وطنيا، وليس لي في هذا المقام إلا أن أذكر بعض من اتذكره منهم؛ امتنانا وعرفا بجميل ما قدموه (مع اعتذاري لمن لم يحضرني اسمه وهم كثيرون) فهم دائمًا من ذلك الرعيل او تلك الافواج العظيمة التي خدمت هذا البلد اجل وافضل خدمة، وما زالت مؤلفاتهم وكتبهم ونظرياتهم ساطعة كالنجوم المشعة والمضيئة في ظلام حاضرنا الدامس, انهم: مصفى جواد, وجواد علي, وعلي جواد طاهر , ومتي عقراوي , ومحمد مهدي البصير, وعبد الجبار عبد الله, وطه باقر، وعبد العزيز الدوري, وجاسم محمد الخلف , وكمال ابراهيم, وسعدي ابراهيم, محمود غناوي الزهيري, ويوسف عبود , وعباس طه النجم , ووديعة طه النجم, وعبد الكريم الخضيري, وحسين العاني , وعلي الوردي، وصادق الخياط, ومهدي المخزومي , وابراهيم السامرائي, ومحمد علي الياسين, وعز الدين الياسين , وابراهيم كبة, وفوزي القيسي , وطلعت الشيباني, ونزهت الطيب, واسماعيل مرزة, وصلاح عزت تحسين, وفاضل الطائي , ومحمد واصل الظاهر, وفاضل الجمالي, وضياء جعفر, وعبد الملك الشمري, وجان ارنست, وحسن زلزلة, وعبد المنعم السيد علي, وعلاء الراوي , ومنصور الراوي, ومحمد حسن سلمان ومجموعة كثيرة من الاطباء من حملة شهادات الاختصاص العالي , وكثير كثير اخرون اعتذر عن عدم ذكر اسمائهم ، لكنهم وإن لم يذكروا فهم ليسوا اقل شئنًا او علمًا ممن ذكرتهم.

واعداد كثيرة جدًا منهم, كانوا هم بناة نهضة العراق الاولى في تأريخه الحديث سواء في الجوانب العلمية الصرفة او الصحية او الاقتصادية او الاجتماعية او التربوية او السياسية او القانونية او الادراية، وغيرها من نواحي الحياة المختلفة.

ان من ذكرتهم سلفًا او لم اذكرهم ضحوا وعانوا الكثير سواء في حياتهم او عملهم ولكنهم كانوا بناة الاسس القويمة والصحيحة في كل نواحي الحياة الاخرى وحسب تخصصهم، لكني اعود الى ذكر القسم الاخر منهم، الذين كانوا في المستوى نفسه و بالكفاءة نفسها، وهم المتميزون ممن اكملوا دراسة العلوم واستيعابها وتدريسها في بلدان الغرب المتقدمة، وحين لمست تلك الجامعات او المؤسسات كفاءتهم ونبوغهم وتميزهم قدمت لهم ما يغريهم للبقاء لديها وخدمة مؤسساتها، ولم تكن تلك المغريات او الماديات وما يرافقها من معنويات وتسهيلات علمية واكاديمية باهضة عليها، بل رخيصة ومناسبة لها، لكون تلك الدول لم تبذل أي مبلغ من المال على هذه الكفاءات، بل بذخت عليهم بلدانهم التي كانت اغلبها فقيرة نامية استقطعت كلف تعليمهم وتدريبهم من لقمة عيشها وصحة ابنائها للحصول على موارد بشرية مؤهلة تأهيلاً عاليًا لقيادة انشطة نموها العلمي والاقتصادي والاجتماعي، وعندما اينعت اقتطفتها جامعات ومؤسسات تلك البلدان وسخرتها لخدمتها وليس لخدمة اوطانها.

اما الفئة الثانية من هذه المجموعة فهم من عادوا وعملوا في العراق اسوة بالمجموعة الاولى من الرواد العظام الذين ذكرتهم ولكنهم بعد عودتهم وانخراطهم في الجامعات والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية عانوا الامرين من عوامل سلبية ثلاثة، وهي: اولاً لم يجدوا الاجواء العلمية والاكاديمية والعملية والفنية المناسبة للتي درسوا وتدربوا وتعلموا فيها، بل كانت الأجواء اما معدومة او لا ترض طموحهم وتطلعاتهم العلمية والاكاديمية، فسأموا الوضع المتخلف والمتردي وفقدوا الامل في تحسن الاوضاع وانهاء التخلف والتردي، فكان هذا العامل الاول الذي دفع إلى هجرة هذه الكفاءات، اما العامل الثاني فكان متمثلا بقيادات المؤسسات التي عملوا فيها وفي اداراتها المتخلفة وغير الكفوءة، واغلبها لم تكن ادارات مناسبة لأماكنها مما ادى الى تصادم هذه الكفاءات بتلك الادارات وعدم انسجام الاولى في العمل بأمرة الأخيرة، فسأمت هذه الكفاءات الحال هذا وقررت العودة الى بلاد الغرب، حيث الاجواء المختلفة والامكانيات والمغريات الكبيرة،والكثيرة وكان ذلك عاملاً ثانيًا في هجرتها لبلدها واغلبها خططت عند الذهاب ان لا تفكر مستقبلاً، ابدًا، بالاياب.

اما العامل الثالث، الذي هو الاقل اهمية بالنسبة لهذه الفئات العبقرية، فهو الجانب المادي والمالي, فلم تكن الرواتب والاجور او المخصصات، وكذلك ما كان يجب ان يوفر لها من امتيازات، مناسبة لما جلبته من علوم ونظريات، وما كان ينبغي ان تتحمله من واجبات ومسؤوليات، بل ساوتها قوانين الخدمة والملاك مع أي موظف او مسؤول قد يكون لا يحمل الا ابسط الشهادات ويحمل اقل المؤهلات.

هذه عوامل اساسية كانت السبب الرئيس الكامن خلف هجرة اعداد كبيرة من النوابغ والعلماء والكفاءات، لكن هل هي خسارة كبيرة لحقت بالبلد ام هي حق من حقوق الانسان خاصة وان الحكومة كانت حاضرة للمطالبة بتسديد كامل او جزء من النفقات حسب احكام التعاقدات؟ وهو ما سأتحدث عنه في آخر هذا الكلام .

اعود مرة اخرى الى مجموعة من اصحاب المؤهلات والكفاءات التي ارسلتها دائرة البعثات اوغيرها: الاجازات الدراسية والزمالات, وهي الافواج التي غادرت البلاد بعد عودة وزارة التعليم العالي إلى اطلاق البعثات منذ سنة 1972، بعد ان اوقفتها وزارة التربية بعد نكسة الخامس من حزيران 1967، وياله من قرار! بل هو اشبه بالفرار, المهم كانت هذه البعثات منتقات، واجراءات اختيار طلابها قائمة على ضوابط واسس, إلا أن موجة التسيس والكسب الحزبي وضم اكبر عدد ممكن من يمكن تسخيرهم لما تخطط له قيادة الحزب الحاكم في تلك الازمان جعلت المبعوثين على مجموعتين: الاولى منهم بقيت ملتزمة بنهجها العلمي وهدفها في الانخراط بالبعثة او الزمالة، فحرصت على ان تستفيد من الفرصة، وتحصل على افضل الشهادات لتقول بعدها للبلد مع السلامة (باي باي) إذ كانت تعرف (هذه الفئة من الكفاءات) طبيعة الاوضاع، وما ينتظرها من واجب تقديم فروض الطاعة والولاء، فضلاً عن التجنيد الاجباري او قواطع الجيش الشعبي، ومن ثم رفضوا ان يكونوا وقودًا للحروب والغزوات .

اما الفئة الثانية فبعضهم كان حقًا من الكفاءات التي دفعها اخلاصها وانتماؤها للوطن، وغيرها من الالتزامات إلى ان تقبل بما كتب عليها من مصير لا يعرفه الا رب العباد، في حين أن هناك من نستطيع أن نصفهم بأنصاف الكفاءات لانهم حصلوا على البعثة او الزمالة من دون استحقاق؛ اما بفضل الولاءات او الوساطات أو لانتمائها لذلك الحزب القائد او لتلك الفئات، وبالاسلوب نفسه الذي حصلت بفضله على البعثة او الزمالة حصلت على الشهادة وعادت، بنصف كفاءة ومؤهلات، فكانت طالبة ولاية وسلطات (لا بل تسلطات) عينُها على المناصب والامتيازات ولم يحصل العراق على مخرجات مناسبة لما انفقه من اموال؛ من الدراسة الابتدائية حتى تخرج طلابه من الجامعة الاجنبية، أي من المدخلات التي كان يتوقع الحصول منها على افضل المخرجات . 

اما النوع الاخير من البعثات او الزمالات والاجازات والايفادات من العقد التسعيني حتى انهيار النظام، فهي غالبًا لا نملك صورة واضحة عن كيفية الحصول عليها، وكيفية منحها والاسس التي تقوم عليها، وبسبب الحصار المفروض على البلد، في حينها، من جميع الوجوه والابعاد، لم تَمنح اغلب دول العالم قبولا او زمالات لطلبة العراق, لكن بعضها اما من باب العطف او الاحسان، او بسبب عقد الصفقات مهدت، او منحت القبول لطلبة العراق، ولم تُمنح على اساس التنافس والاستحقاق .

 كيف السبيل لعودة الكفاءات، وهل عودتها حقيقة ام خيال؟

بعد هذا العرض الذي قصدت ان يكون مسهبًا، لبيان الصورة الواضحة عن حقيقة البعثات ومخرجاتها (او حصيلتها) من الكفاءات ولأستكمل ورقتي هذه بما ارغب ان أصل إليه، فاني ارى اننا يجب ان نتعامل مع هذه القضية من وجهات نظر ثلاث، هي:   

اولاً / الكفاءات التي تكلمنا عنها، التي هي من النوع الاول الذي عاد ثم هاجر، او لم يعد، بل استوطن في البلد الذي تخرج فيه او في غيره من بلدان الارض التي فتحت اليه ذراعيها وتلقفته؛ كفاءة عالية المستوى جاهزة في البذل والعطاء، أي ثمرة يانعة اقتطفتها من دون جهد او عناء او انتظار او بذل اموال فاستقر به المقام وحصل على افضل الانعام واصبح في غربته او في بلده الثاني ذا شأن ومقام ان هذه الكفاءات افضل لنا ولها ان لا تعود لانها ستخسر كل ما حققته هناك ولا تحصل على شيء هنا حيث اوضاعنا عمومًا عودة الى الوراء وليس الى الامام وإن خطونا خطوة الى الامام عدنا عشرة الى الوراء وهذه الكفاءات سوف لن تجد معامل او مختبرات بل جامعات تنتظر النفقات مما تبقى من تخصيصات تتصدق عليها وزارة المالية بالقطرات وتعد ذلك هدرًا و هباء ان هذه الكفاءات افضل لنا ولها أن تبقى هناك رافعة عاليًا اسم العراق يمكن الافادة منها بالتواصل واللقاء وتسهيل الحصول على المصادر والزمالات وما يمكن من تعاون في سبيل الارتقاء بكفاءتنا لافضل مستوى بعلم وعطاء هذه الكفاءات ينبغي استمرار التواصل معها بكل حب واحترام وتذكيرها بما يمليه عليها الواجب من وفاء بمساعدة جامعتنا ببحث او كتاب او جهاز هو مايرجى منها من عطاء ،ويسرني ان اذكر في هذا الكلام ان المشرفة على رسالة الدكتوراه التي كنت اعدها في جامعة ووج في بولونيا في احدى اللقاءات اعلمتني بأنها خلال زيارتها لارقى الجامعات في اميركا واوربا التقت بكثير من الاساتذة من العراق والاحظهم انهم بعيدون عن وطنهم العراق ،ومثل هؤلاء ينبغي على حكومة العراق أن تقيم معهم افضل الصلات للافادة من مواقعهم وكفاءاتهم لتحسين الاحوال في جامعاتكم او في مختلف المجالات فكانت صادقة في نصيحتها وياليت ذلك كان ولكن لم تبرمج حكومتنا ووزارتنا لمثل تلك الصلات بل نظمت لقاءات للمغتربين العراقيين قبل وبعد ايام الحصار ولم يستفد منها العراق بشئ سوى اغداقه عليهم من اموال ببطاقات السفر وولائم الطعام بالرز المغطى بالكشمش واللوز والزعفران الاصفر والخرفان فان اعطيت الفئة الاولى حقها اعود الى الفئة الثانية من هذه الكفاءات سواء العائدة من خارج العراق ام التي حصلت عليها من العراق وهي مازالت ثابتة مستقرة في العراق مضحية بكل شئ في سبيل الاداء الافضل لخدمة ابناء العراق والوفاء على الرغم من قسوة الظروف والاحوال ،ان هذه المجموعة الكبيرة جداً هي الجديرة بالرعاية والاهتمام ولها يجب ان توفر افضل الظروف والامكانات وعلى الدولة رعايتها رعاية تامة من حيث توفير الظروف المناسبة لعطائها العلمي كذلك السكن والمعاش, ومتى ما وفرت ذلك فلا يبقى عذر لهذا او ذاك بتردي الظروف في العراق او الادعاء بعدم توفر سبل العيش الكريم والعطاء ومتى ما حصل ذلك فسوف لا تكون هناك هجرة ولا عودة كفاءات بل كل شيء ميسر وعلى افضل ما يرام او من كان في خارج العراق ويرى ظروف زملائه الميسرة في العراق فيكون ذلك عاملاً حاسمًا لسرعة عودته الى العراق من دون قوانين او نداءات لا قيمة لها ولا مسوغات بل كلام في كلام, هذه هي الفئة الثانية ثروة وطنية كبيرة ينبغي على الدولة الحفاظ عليها لابالوعود والامال بل بتحقيقها من الان وإن ذلك ليس بصعب المنال فالعراق هو الذي اغدق على العلم والعلماء منذ اقدم الحضارات وهو الذي سخر لها كل الامكانات فكان بلاد العلم والعلماء بفضل الرعاية والاهتمام وكان محط أنظار العلماء من عرب ومسلمين وغرباء من مختلف الاوطان, ويعّد العلماء الافذاذ أمثال الخوارزمي واولاد موسى وابن سينا والرازي وغيرهم من الرواد أفضل برهان. ومن رغب في الاستزاده في المعلومات فليقرأ كتاب المرحومة زيغرد هونكه, (شمس العرب تسطع على الغرب) ففيه ما يفي لكل راغب في معلومات عن ماضي العراق والعرب والمسلمين من علماء وليس ذلك بغريب على المسلمين, وقرآنهم الكريم ذكر العلم والعلماء أجلّهم ووضعهم في أفضل منزلة ومقام.

اما الفئة الثالثة ممن قد يعدّون من كفاءات او حملة شهادات وسواء كانوا حقًا كذلك ام لا فهي لا تعرف غير المصالح والانتفاع والركض وراء المكاسب والمال, ولا هم لها سوى تحين فرص المكاسب والانتفاع, فهي ليست طالبة علم بل طالبة مال لا تشبع منه حتى لو وصلت الى اطنان, فلا علم رصين يستفاد منها ولا مال وهذه المجموعة أي المجموعة الثالثة التي أقصدها هي من الافضل تركها من ٍٍٍدون اهتمام لا حسرة عليها ولا آه, بل قد يكون الافضل لنا ان نسهل لها الحرية في الذهاب والاياب. فان اندمجت في جو العمل العلمي والعطاء فأهلا وسهلاً بها وبكل ترحاب وستكون اولاً وآخرًا من ضمن المجموعة الثانية التي ذكرتها في هذا المقال , وان رغبت في ان تعمل في دول الجوار او في السفر والتجوال كالسندباد في التجارة والاقامات حتى لو كان ذلك في بلاد الواق واق فأقول لها مع ألف سلام. وفي الختام هل يتطلب ان اسألك عزيزي القارىء هل عودة الكفاءات المهاجرة حقيقة ام خيال؟.

 

أ.د. ماهر موسى العبيدي

أكاديمي عراقي

 

 

»

اكتب تعليقا