اهلا بكم
اهلا بكم
بحث في الموقع

“نيه سمارويه نيه يادو” او “الميدهن مياكل ” أحد أهم أسباب الفساد الإداري والمالي

لاشك أن قارئي العزيز قد يستغرب من عنوان خاطرتي هذه مع أني قد وضعت معناه بين قوسين كذلك وذكرت انه احد اهم اسباب الفساد الاداري والمالي ليس في العراق فحسب بل في جميع اقطار العالم كما ثبتته النشرات المتخصصة في الرقابة والتدقيق والادارة والقانون وغيرها. أما من أين أتيت بهذا العنوان وبأية لغة كان فأود أن اذكر لحضرتك ان هذا المصطلح هو باللغة البولونية وهو مثل متعارف عليه لدى البولون عرفناه عندما كنا طلابًا للعلم في بولندا خلال السبعينيات من القرن الماضي عندما كانت بولندا شعبية واشتراكية ضمن اقطار المعسكر الاشتراكي ومقر حلف وارشو.

يعلم جميع زملائي كم نحن نحترم جامعاتنا ومؤسساتنا التعليمية وقدرات تدريسيها التي لا تقل عن قدرة تدريسي أرقى الجامعات الغربية إن لم تتفوق عليها ولكن يعلم جميع زملائنا ايضًا كم نحن نؤيد ونؤكد ضرورة البعثات العلمية خارج القطر وضرورة استمرارها على الدوام لاهمية رفد مؤسساتنا بالمتخصصين في الدراسات التي لا يتوفر في بلدنا مثلها فضلاً عن الاطلاع والافادة من احدث النظريات والاساليب العلمية القائمة في تلك الجامعات, كما ولهذه البعثات العلمية مزايا جمة اخرى منها الاطلاع على ثقافات وعلوم وفنون تلك المجتمعات واخلاقها ومن المؤكد ان العائدين يحملون معهم افضل تلك الاخلاق والعادات الجيدة وينشرونها في مجتمعاتنا ولكن في الوقت نفسه ان من مزايا هذه البعوث والاقامة والاختلاط مع تلك المجتمعات ان تعرف سلبيات ما يسود في تلك المجتمعات ورأيهم فيها, فالنظام الاشتراكي بحسب افكار الاحزاب الشيوعية او العالمية التي كانت حاكمة لاقطارها على الرغم من كل ما حققته لشعوبها من تقدم اقتصادي واجتماعي كانت ترافقه دائمًا وبسبب التخطيط المركزي لكل صغيرة وكبيرة وبسبب الشمولية في الحكم وقيادة الحزب القائد او الحاكم, افرز هذا النظام البيروقراطية البطيئة في العمل والتنفيذ والتباطؤ في الادارة وعدم تحديثها وتطوير قدرتها في اداء الاعمال وكفايتها, وقلة في عرض السلع لا يتناسب مع الطلب الفعال الذي اوجده النظام الاشتراكي وسياسة التشغيل الكامل أو لابطاله في المجتمع على الرغم من ضعف الاجور, افرزت هذه الظواهر او الاسباب شيوع ظاهرة الرشوة وتفشيها في مؤسسات الدولة واداراتها طول مدة اربعين عامًا ساد فيها النظام الاشتراكي وحكم الحزب الشيوعي, وكم كان يمتعض ويتذمر ابناء الشعب البولوني من هذه الظاهرة وغالبًا ما كان  يسخرون من الرشوة في مؤسسات الدولة وادارتها بأن الاعمال فيها لا تسير الا بالرشوة بمختلف صورها او كانوا يلمحون الى ضرورتها بالمثل الدارج لديهم    (نيه سمارويه نيه يادو) ( الميدهن ما ياكل).

أراني اسهبت في توضيح ذلك المثل الساخر الشائع في بولونيا كما سمعته ورأيته بعيني ولكن مقدمتي هذه ذكرتها لاوضح لقارئي العزيز , اني عند مغادرتي العراق في بداية السبعينيات لم يكن للرشوة في بلادنا أي وجود, وهي إن وجدت فكانت ظاهرة محدودة ومنبوذة لا يمارسها ولا يقبل بها إلاّ ضعاف النفوس في مؤسساتنا الحكومية ولكننا بعد عودتنا الى القطر وجدناها شائعة ومقبولة في العديد من مؤسسات الدولة او بدت متعارفـًا عليها ليست معيبة بل محرمة كما كانت ايام زمان, هذا في بدايات الثمانينات وكان العراق مايزال في مقدمة الدول الغنية بثرواتها النفطية الوافرة في موجوداتها النقدية, لكن الحرب ها قد بدأت وباشرت في اكل الاخضر واليابس وتحول ابناء الشعب العراقي شيبًا وشبانًا وقودًا لها وهكذا احرقت المليارات من الاموال وازهقت الملايين من الارواح, فشحت الاموال وبدأنا بالتقشف والاقتصاد بعد ان كان الهدر والتبذير هو الشعار, فتحولت الامور من رشاوى وحصص على اكبر الصفقات حتى بدأت الرشاوى تقبل بأبخس الاثمان , ومن حرب الى حرب ومن تقشف الى حصار دام سنوات ومن ايرادات او موازنة لا تعرف كيف تصرف او تدار وبدأت ظاهرة الرشوى تعم وتزداد وتصبح عرفــًا وثقافة وليس فسادًا, وفي ظل رقابة ادارية ومالية ضعيفة غير كفوءة ولا يؤخذ لها أي حساب اصبحت الرشوة تعم البلاد, واصبحت ادلتها لا تحتاج الى اثبات, وشاع عرف او مثله بين المتعاملين بها من عاملين في الدولة او متعاملين بها (مشيلي ومشيلك) او (طلع لي وطلع لك) او غيرها من المصطلحات التي لا تختلف عن المثل البولوني (نيه سمارويه نيه يادو) وأن تنوعت واختلفت أشكال الرشوة في ذلك النظام وبعد ان تنفسنا الصعداء بعد انهياره مازالت الرشوة والاتفاقات والتواطؤ والانتفاع بين العاملين والمتعاملين في اجهزة الدولة قائمـًا على قدم وساق لا تتمكن من كبح جماحه أية رقابة كانت أو نوع تفتيش, ومايزال مبدأ (مشيلي ومشيلك) مطلقـًا له العنان, وبعد ان غاب مثل البولون (نيه سمارويه نيه يادو) عن الاذهان  مايزال مبدأ (الميدهن ما ياكل) في مؤسساتنا سيد الامثال (كما اعتقد) وعن هذه الحال لدى البولون مثل اخر لو ترجمته لك عزيزي القارىء لانقلبت على قفاك من الضحك الذي هو امر من البكاء.


أ. د. ماهر موسى العبيدي

أكاديمي عراقي


 

»

اكتب تعليقا