كم ادى هذا الجهاز العجيب المذياع منذ اختراعه وما زال من خدمات يعجز عن وصفها القلم واللسان، وأبدعَ من وصفه وعدد مزاياه هو المرحوم الفنان عزيز علي الذي ظُلم كثيراً لمنلوجاته الهادفة والساخرة، وإن حصل على تكريمٍ ما فهو لا يساوي شيئاً تجاه ما قدمه من خدمات لهذا الشعب العظيم المبتلى بالازمات والقيل والقال وأضحى غالباً هو الحبل الذي يَجرَّهُ من اطرافه المتخاصمان على الكراسي والسلطان، أقول إن هذا المذياع قدم الكثير منها تهذيب الأذن الناس بسماع تلاوة القرآن الكريم والاحاديث الدينية والأذان وغيرها من مختلف مواضيع الاقتصاد والاجتماع ونشرات آخر الأخبار، وإسعاد النفس بأعذب الألحان وأجمل الأهازيج والهوسات .

ولا أطيل على حضرتك القارئ العزيز حتى أصلك بسرعة إلى الهدف من هذه الخاطرة لأقول أن المذياع لطالما شنف أذاننا بغناء أم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب، وفريد الأطرش بأجمل الأغاني والألحان وأي الحان، أعذب الألحان، وفي هذه الأيام عاد إلى ذاكرتي كثيراً اوبريت عنوانه ( بساط الريح ) من تأليف الشاعر التونسي بيرم التونسي وغناء المطرب المرحوم فريد الأطرش وعصمت عبد العليم – هكذا أتذكر اسمها – وكان يحتوي أشعاراً جميلة وفيها جال على الدول العربية وعندما حطّ بساطهما على بغداد بلاد الخيرات وبلاد الأمجاد، تضمن بيت شعري قال فيه :-

يدجلة انا عطشان مكدر ارتوي                       من حسنك الفتان هذا الكسروي

وكانت أمانة بغداد وفية لهذا الشاعر التونسي فسمت كورنيش الكسرة وحتى الاعظمية باسمه وكان ذلك جميلاً منها على الرغم من كونها نسيت الكثير من الشعراء والأدباء العراقيين ولم يتم تكريمهم بعد بإطلاق أسمائهم على أحد شوارع بغداد ولكني اعتقد إن هناك سبباً آخر يدعوني للطلب من أمانة العاصمة ومديرية إسالة الماء التابعة لها – كما اعتقد – أن تعيد تكريم هذا الشاعر العظيم صاحب الخيال الصاخب والفكر المتوقد، الذي تنبأ منذ أكثر من خمسين عاماً بأنه – على الرغم من عطشه فهو لا يقدر على ارتوائه من نهر دجلة ولم يذكر السبب – ولكنني اعتقد انه توقع بفكره الثاقب بأن دجلة سوف لن يستطيع الارتواء من زلاله الذي شبهه بجمال كسرى – ولا اعلم إن كان جمالاً لآخر غيره – وان منعت إذاعة بغداد من بث هذه الأغنية في النظام السابق لأنه يشير إلى جمال كسرى، فأني أعتقد أنه ما زال ممنوع بثها حتى ما بعد تغيير الأحوال، والسبب في ذلك – كما اعتقد – كي لا يتذكر البغداديون جمال ماء كسرى فيطالبون اشباعهم من مائه العذب الزلال الذي أغلبهم محرومون من غزارته منذ أكثر من عشر سنوات، ولولا مضخات الكهرباء ( الماطورات ) لمات – لا سّمح الله – نصف البغداديين من العطش، وكي لا يحيوا ذاكرة استغراب الناس لما يتضمنه ذلك الاوبريت من اطراء على نهر دجلة ويتذكروا عشرات المشاريع التي ترصد لتأمين الماء لمحلات بغداد وتمر السنون وما يزال الحال كما كان فيحصل التذمر وتطالب الجماهير بالإنجاز، أما ما تعرضه الفضائيات من مناظر شحة الماء وتكدس النفايات فهذا امر اخر لا علاقة له ببيرم التونسي ولا فريد الاطرش، والحمد لله على إنجاز امانة بغداد لمتنزهات ابو نواس وفتح شارعه وإن شاء الله تنجز منتزهات شارع بيرم التونسي ويُفتتح الشارع ليسير عليه العراقيون وأنا متأكد ان قسماً ليس بقليل منهم سيتذكر أغنية فريد الأطرش ( بساط الريح ) وسيغنوا مقطعها الشهير :-

يدجلة انا عطشان مكدر ارتوي                       من حسنك الفتان هذا الكسروي

أ.د. ماهر موسى العبيدي

أكاديمي عراقي