الرئيسية
السيرة الذاتية
مقالات
مؤلفات
البوم الصور
رسائلكم
رثاء
اتصل بنا |
|||
اهلا بكم
أحدث التعليقات بحث في الموقع |
القطاع الصناعي العام والخاص ودورهما في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية في العراق
لم تكن الصناعة في العراق متطورة او نامية عند استقلاله وقيام الحكم الوطني وحتى نهاية الاربعينات وكان القطاع الخاص هو المتسيد للصناعتين الخفيفة او البسيطة او الحرفية كصناعة السجاد اليدوي والاثاث والملابس والاواني المنزلية المختلفة والصناعات الانشائية البسيطة كالطابوق والجص ومنتجات ورش الحدادة، اما القطاع العام فلم يكن له شأن هام في النشاط الاقتصادي الصناعي وحتى الخمسينيات سوى معامل شهداء الجيش وكانت تختص بالصناعات النسيجية وغيرها من بعض المستلزمات العسكرية . بعد توفر الموارد المالية للحكومة العراقية عند مناصفة واردات النفط في بداية الخمسينيات من القرن الماضي وباشرت في خططها الاعمارية حصل تقدم واضح في مساهمة القطاع الصناعي العام في النشاط الاقتصادي حيث شيدت معامل للمواد الانشائية وفي مقدمتها معامل الاسمنت ومحطات الطاقة الكهربائية والصناعات النفطية وحصل تقدم بسيط في مساهمة القطاع الخاص الصناعي في اقامة الصناعات، مثل صناعة المشروبات الغازية والروحية والنسيجية وبعض الصناعات الاخرى . بعد ثورة 14 تموز سنة 1958 توجهت الدولة نحو توسيع مساهمة القطاع الصناعي العام في النشاط الاقتصادي واهم ما جرى هو ابرام الاتفاقية العراقية السوفيتية التي تضمنت اقامة العديد من الصناعات عرقلت الاضطرابات السياسية تنفيذها . كان نمو القطاع الصناعي العام والخاص بطيئاً وغير مؤثراً حتى عام 1968 بصورة واضحة على النشاط الاقتصادي في العراق كما ووجهت اجراءات التأميم لشركات القطاع الخاص المختلفة ومنها الشركات الصناعية سنة 1964 ضربة قاضية لنشاط هذا القطاع واوقفت تقدمه بل ادت هذه الاجراءات غير المدروسة الى عزوف القطاع الخاص من الاستنشار في القطاع الصناعي والنشاط الاقتصادي عمومآ بسبب الخوف من اجراءات التأميم فيما عدا الانشطة الاقتصادية البسيطة الوافرة الربحية والتي لا تشملها اجراءات التأميم لصغر حجمها، ساهمت الخطط الاقتصادية والاجراءات التي اتخذت منذ سنة 1968 ومن ثم بعد ذلك زيادة الايرادات المالية للدولة بعد اجراءات التأميم وزيادة اسعار النفط منذ عام 1973 وما بعدها على قيام صناعات متنوعة ومختلفة للقطاع الصناعي العام عززت بها الدولة دور القطاع العام في النشاط الاقتصادي الصناعي ولكن في هذه المرحلة كان توجه الدولة نحو التصنيع العسكري كبيراً ومؤثراً على نشاط التصنيع المدني بصورة سلبية، لا بل طغى عليه وعلى الاقتصاد العراقي وسياسة البلد على نحو عام فأنفقت مليارات الدولارات على التصنيع العسكري وانتهت هذه الصناعات بالدمار الشامل . اما القطاع الخاص خلال هذه المرحلة فلم تكن للدولة خطة واضحة لتنميته وتحفيزه بما يمكن ان يسهم بصورة فعالة في تنمية الاقتصاد العراقي عموماً بالرغم من توفر الامكانيات المالية اللازمة لذلك . لا ارى من الضرورة الاسهاب او الاطالة في شرح ما آلت اليه احوال القطاع الصناعي العام بشقية المدني والعسكري من تدهور وتدمير بعد احداث الخليج الثانية والحصار الذي فرض على العراق فضئل حجم هذا القطاع وتأثيره في النشاط الاقتصادي العراقي واستمر حاله على نفس الصورة لمدة ثمانية عشر عام، اما القطاع الخاص ونتيجة لفرض الحصار والحاجة الماسة بالبلد للمنتجات الصناعية وحاجة النظام السابق الالتفاف على العقوبات الاقتصادية او الانفلات من طوقها الخانق فلجأت الحكومة الى تحفيزه بطرق مختلفة لذلك شهد هذا القطاع نموماً ملحوظاً في نشاطه في تلك الفترة . ان ما يهمنا في الوقت الحاضر وبعد مضي خمسة سنوات على نهاية النظام السابق وبداية عهد جديد ان نعرف ما هي استراتيجية الحكومة تجاه القطاع الصناعي عموماً من ناحية وايهما ينبغي ان ينمى ويطور اولاً، وهل من الضرورة ان تكون الغلبة لهذا القطاع على القطاع الاخر، وهل ان الصفات الشمولية للنظام السابق يحتم على الدولة عدم الاهتمام بالقطاع الصناعي العام وانتشاله من التدهور بأعادة الحياة الى الصناعات المحطمة والمهملة والمدمرة وتحديثها لتسهم فوراً في توفير البضائع والمنتجات التي يحتاجها الشعب العراقي مع حمايتها من المنافسة الاجنبية والاخذ بنظر الاعتبار خفض كلفتها ليكون سعر بيعها مناسب لدخل الفرد العراقي من ناحية ومنافساً لسعر البضاعة الاجنبية من ناحية اخرى، وهل ان حاجة البلد الى الكثير من الصناعات الثقيلة لا تفرض على الحكومة العراقية ووزارة الصناعة والمعادن الاهتمام الكبير ببناء فرع الصناعة المهم هذا والذي من الصعوبة على القطاع الخاص المساهمة فيه الا وهو فرع الصناعات الثقيلة، اليس واضحاً لدى الدولة ان رغبت بقيام صناعة حقيقية ثقيلة وخفيفة ان تقوم بدعم واسناد وتحفيز القطاع الخاص للمساهمة في بناء الصناعات الخفيفة الواسعة التي يحتاجها الاقتصاد العراقي والقطاع العام او التي في طريقها للتقدم فتحفز القطاع الخاص في بناء مشاريعه والمساهمة في استثماراته فيساعد ذلك في سرعة النمو الاقتصادي بتشغيل ايادي عاملة كثيرة عاطلة مستهلكة غير منتجة فتساهم في زيادة الدخل القومي وتعوض عن كثير من الحاجة للاستيراد من دول اخرى مما يحافظ على ثروات البلد وعدم استنزافها بالاستيراد . ان كل تساؤلاتي تلك لا اجدها ( كما اعتقد ) واضحة في الاستراتيجية الاقتصادية العراقية، وان ورد شئ بقانون او نظام او تصريحات فأن ما نفذ منها قليل لا شأن له ولا تأثير لان كل ماذكر وقيل هو عبارة عن سوق للتخدير وليس تثوير بدرجة مناسبة في التنفيذ ( كما اعتقد ) .
أ. د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
عواء الكلاب
لم تكن متوسطة الحلة للبنين التي تقع وسط مدينتها والتي قضيت ثلاث سنوات فيها مدرسة متوسطة فحسب بل هي مؤسسة علمية بكل تفاصيلها، واتذكر مجموعة كبيرة من طلبتها حصلوا على أفضل الشهادات الجامعية (أولية أو عليا) وهناك الكثير منهم يشغل الآن وظائف مهمة ومتميزة ومن بقي منهم حياً يمارس أعمال التجارة أو غيرها بتميز ولا أنسى أن اذكر منهم من هو خارج العراق تدريسياً في جامعات عالمية مرموقة أو مراكز أبحاث عالية الأهمية، وما أرغب أن أذكره في مقالتي هذه هم تدريسيوها الذين عملوا فيها في مطلع الخمسينيات ومنهم -رحمه الله- عبد الرزاق الماشطة الذي كان يفتتح المحاضرة بآرائه السياسية الجريئة، وعبد الحسين هاتف مدرس التاريخ الأنيق المتميز وكاظم الطائي مدرس اللغة العربية الذي كنا نتهامس بيننا -طلاب الشعبة- بأنه مراقب من السلطة فضلاً عن أستاذ جامعة بغداد الكبير حالياً الدكتور قيس النوري الذي كان يقدم محاضراته بمقدمة عن المثل والأخلاق (وأمر آخر سافرده بمقالة لاحقاً) ولا شك أن هناك الكثير غيرهم من إخواننا المصريين الذين عملوا في تلك الحقبة من الزمن كالشاعر سعد درويش ورشدي وأنور وغيرهم ومما لا شك فيه أن الكثير منهم سبقوا ما ذكرت من التدريسيين في العمل بهذه المدرسة المتوسطة التي كان عطاؤها ثراً غنياً للعراق وشعبه على نحو عام. أعود عزيزي القارئ إلى عنوان مقالتي هذه لأوضح لحضرتك ما علاقة مقدمتها بهدفها ، لقد كان من بين هؤلاء المدرسين العظام مدرس آخر لا أتذكر اسمه بل اتذكر أنه غالباً يسمى أبا شذى كان يدرس علم الهندسة وكان هذا المدرس العظيم يهوى الشعر وقراءته والأدب وإلقاءه، لا أتذكر محاضراته العلمية والهندسية ولكن أتذكر مقدمات محاضراته الأدبية التي كتبت عنها سابقا مقالة “استضعفوك فوصفوك” وغيرها ولكن ما أتذكره من جملة قراءاته علينا من مختارات الشعراء أمثال جرير والفرزدق وأبي العلاء المعري وأتذكر بيت الشعر الذي قرأه علينا مراراً لأحد الشعراء والذي نصه:
لو كلُّ كلبٍ عوا القمتُهُ حجراً لأصبحَ الصخرُ مثقالاً بدينارِ
كم هو عظيم هذا الشاعر وكم هو بليغ ، وأنا اعتقد -والله أعلم- أن هذا الشاعر قد هدده كلب واحد فقط ذكره في هذا البيت من الشعر البليغ ففضل عدم إلقاء ذلك الكلب بحجر حتى لا يصبح مثقال الحجر بدينار، وربما يكون قد تحاشى( رحمه الله) أن يذكر أنه لو ألقى الحجارة على كل الكلاب التي تعوي لتطلب الأمر هدم المنازل والبيوت والأبنية الشامخة والشاهقة لترتاح الناس عند ذلك من العواء بعد أن يحققوا ما يصبون إليه بإنهاء الكلاب من العواء لا أكثر ولا أقل. إن ما تعرض له العراق وشعبه المسكين الفقير من عواء الكلاب من خارج العراق لا تسكته كل ما في العراق من حجارة في الأرض وما شيد فيها من بناء ولو استمرينا في إلقاء الحجارة على هؤلاء الكلاب فكم سيصبح سعر (دبل الطابوق) أنا متأكد أن سعر الطابوق سيجعلك تفكر ببناء -شقة أو غرفة في السراب وليس في الحقيقة. وإذا كانت هذه الحالة ستعمم عمن سبق أن ذكرتهم في مقالي هذا فكيف ستكون عليه الحال لو انشغلنا في إلقاء الحجارة على الكلاب داخل العراق ، أنا واثق أن سعر مثقال الحجر سيكون بمليون دينار وليس ديناراً لأن كلاب هذا الزمان تعوي ليلاً ونهاراً ولا يسكتها إلقاء مليون حجر.
أ. د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
شرطي فــي الدماغ
قبل البدء بتفاصيل خاطرتي هذه أعتذر مقدماً لجميع إخواننا في جهاز الشرطة بمختلف الانواع لمْا قاموا به من جهود وتضحيات يعجز الثناء لها القلم واللسان لكنني نويت كتابة خاطرة في موضوع مشابه لما دار في ندوة تلفزيونية حضرها بعض الادباء التي وصف فيها احدهم حالة الكثير من المسؤولين والمؤلفين والكتاب و التي قد تكون حالة جزء كبير من ابناء الشعب وبسبب ما عاناه لأربعة عقود مضت من كبت للحريات واهانة للكرامات ولاسيما ذوي الالباب لذلك وما زال الكثير جداً من الناس مفكرين ومسؤولين وأدباء وأساتذة ورجال أعمال وحتى أقل الناس معرفة حين يعمل ويفكر يتحاشى ويتجنب ويحاول أن يكون دائماً على الهامش من الاحداث او عدم إبداء الآراء في خضم الاعمال حتى لا يسأل ولا يُسأل لان ذلك قد يجره الى ما لا يحمد عقباه، وهكذا ما زال الكثير يعيش وكأن شرطياً او أمنياً أمامه او خلفه او يسترق السمع على حديثه اينما كان فيتجنب الدخول في قيل وقال وكفى المؤمنين شر القتال وحقيقة الامر كما سماها الاديب انها حالة ( شرطي في الدماغ ) . عندما كنت مسؤولاً لإحدى المؤسسات الحكومية وتعاقدت نيابة عنها مع مؤسسة مصرية لإجراء دورات تدريبية متقدمة في إدارة الاعمال وكان تمويل ذلك النشاط منحة من المؤسسة المصرية التي يديرها أستغرق فتح الحساب الجاري لإستلام المبالغ التي ستمول في أحد البنوك الحكومية ثلاثة أشهر من الزمان في حين لا يستغرق ذلك في أغلب دول الجوار وليس في دولة الولايات المتحدة الامريكية او الالمان او الطليان سوى ربع ساعة من الزمان، سألني الاخ المصري الجنسية العراقي الاصل ذو الاختصاص العالي المستوى بعلم إدارة الاعمال ومهنته، لماذا هذا التأخير ؟ لماذا هذا الروتين ؟ أجبته ضاحكاً : بأننا طالما أنتقدنا النظام السابق في مركزيته وبيروقراطيته التي كانت واضحة في أداء المؤسسات في تلك المرحلة، تعزز هذه الحال الالاف من القوانين والانظمة والتعليمات، فهي كانت أشبه بالمسامير التي لا يستطيع أن يسير عليها الا السحرة الهنود أو هي كالأبر التي لا يجيد استخدامها الا الاطباء الصينيون، واستمريت قائلاً له : لقد كانت الاحوال يمكن تشبيهها أيضاً بأن مسؤولينا كانوا مكبلي الايدي، فعندما تقطعت الحبال لم نجد هناك في مؤسساتنا من خفض اليدان وباشر بالعمل بالمعروف والاحسان وحل مشاكل الناس التي هي متراكمة كالأطنان، والتي كان ينبغي أن تبادر جميع دوائر الدولة بالعمل بعقل وفكر متفتح على الناس وتسهيل أمورهم بكل جرأة وسرعة وأمان وكان يجب عليها ان تعيد النظر في القوانين والانظمة والتعليمات بل هي لا هذا ولا ذاك تمسكت بالقوانين والانظمة والتعليمات لذلك النظام وغالباً ما اهملت ما هو ناجح ونافع وقدمتها للناس فأصبح الناس في حيرة من أمرهم . إن كان ذلك النظام وقوانينه قد استعبدت بني الانسان لمدة طويلة من الزمان، فما خطب مسؤولو هذا النظام لا يعيدوا النظر في كل قانون او نظام صدر في ذلك الزمان، لتخفف على الناس أعباء روتين تلك القوانين الفاسدة والمتعسفة كما يقال، ولا أطيل عليك يا صاح إذ لو استمريت بالحديث معك عن هذه الاحوال التي ينبغي أن ترافقها الاهات والحسرات لخرجت من عندي مجهشاً بالبكاء، سكت برهة وقال : هل ترغب في أن أروي لحضرتكم ما حدث في روسيا عندما غُير النظام ؟ لقد عانت مؤسسات الدولة والناس هذه الاحوال نفسها وضاق الجميع ذرعاً من الاستمرار بالعمل في قوانين وأنظمة ذلك النظام التي كانوا يشكون منها ايضاً قبل تغييرهم النظام، فماذا حصل ؟ شكلت الدولة لجنة عليا مهمتها دراسة القوانين والانظمة و التعليمات ( بتوع ) الخاصة بزمن السوفيات واقتراح ما يجب أن يجري للتخلص من ثقل وطأتها على الناس، وبعد قبل وقال واجتماع اللجان ودراسة الحال وما ينبغي أن يبقى او يحذف من قوانين وتعليمات، خرجت تلك اللجنة الضخمة بقرار ينص على الآتي :- (( ترى اللجنة أن ينفذ أي عمل لم يصدر به قانون أو أنظمة او تعليمات )) وعند التطبيق وجدوا انه لا يوجد أي عمل او نشاط لم يشمله السوفيت شموله بقانون او نظام او تعليمات، فكانت النتيجة كما كنت اورواح في المكان نفسه . فضحكت كثيراً على هذه المفارقة ودعوت الى الله أن يساعدنا على تحريك الايدي وخفظها حتى نستطيع ممارسة الاعمال كما تقتضي الاحوال ولكن لم يحصل ذلك حتى الان، وها أنذا اعود بعد أن سمعت ما قاله الاديب العراقي لأدعو الله ان يساعد على خفض الايدي وأن يخرج الشرطي من الدماغ .
أ. د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
أنزع لها البوت
سألني صديقي الشاب أن كان لدي مقالة او خاطرة جديدة، فأجبته: نعم لدي، فقال: وما عنوانها؟ قلت : ” انزع لها البوت”! ضحك كثيراً وابتسمت معه، عاد فسألني : هل هي على نمط “فوت بيه أوعالزلم خليه” ضحكت، وقلت: بالضبط انها على نفس النمط، ولكن خاطرتي هذه لا تزخرف أو تمجد الهزيمة كما هو في الأخرى فهي وما شابهها من أهازيج لم تكن الا كلاماً فارغاً لا صحة له ولا مضمون. عاد فسألني: ماذا يعني اذن عنوان خاطرتك الجديدة ، انزع لها البوت؟ قلت له: سترى ذلك عند قراءتك لها قريباً انشاء الله، قال: انا في الانتظار. وها أنا ذا أفي بعهدي له بذلك. غالباً ما كنا نسمع من زملائنا، او ممن هم اكبر منا من عوائلنا ومعارفنا ، او ممن هم يقومون بعمل ما يحتاج الى همة او اهتمام ان الامر يحتاج ان ننزع لها السترة، او ان الامر او القضية تحتاج الى (تشليهه) أي رفع اكمام القميص حتى لا يتسخ او يصله رذاذ الماء ، فيكون الامر واضحاً لنا او لغيرنا ان في الامر اهمية او يتطلب الاهتمام. سكنت في طفولتي منطقة ريفية، واغلب اهلها عوائل فلاحية، وكانت هذه المنطقة تمر من خلالها الكثير من الجداول والانهار، بقي في ذاكرتي منظر الفلاحين شيباً وشباباً ، وهم يتعاونون بسواعدهم ذات العضلات المفتولة، والسيقان السمر الطويلة وهي تغوص في الوحل لتتمكن تلك السواعد القوية من كري وتنظيف تلك الانهار من الاوحال والاعشاب، وجعلها صالحة للري لاحقاً، كانت هذه الحملات تتألف من مئات الاشخاص الذين تتعاون سواعدهم جميعاً على الرغم من كونها تأتي من مختلف المناطق لتستطيع ان تنجز بأيام معدودة ما لم تستطع ان تنجزه، بأشهر اجهزة الكري الحديث، انه ذلك التعاون المستمر البناء النابع من الذات من دون قانون او نداء، فهي ترينا كيف يحقق نداء الواجب والضمير والنخوة الحقيقية الصادقة ما لم تحققه التكنولوجيا بكل ثوراتها وتمكنها، ولكني لا اريد ان يفهم من مقدمتي هذه اني افضل الكرك او المسحاة على الكرين او الشفل او غيرها، بل قد اكون من اشد المتحمسين لها، ولكن رغبت ان اوضح مصدر المثل الريفي الشهير القائل: خوض فيها للرجاب ( أو الركاب) ويعني بها ركبة الرجل، دليلاً على اهمية الامر وضرورته مما يقضى الخوض فيه حد الركبة اسوة بحملات الكري التي يخوض بها الفلاحون تعاونا وتعاطفا حتى الركبة ( او الركاب). في بولونيا ، التي كانت تسمى جمهورية بولندا الشعبية سابقاً، وبفضل تعلمنا للغة البولونية عرفنا الكثير من الامثال الشعبية المعبرة واللطيفة لديهم واكثر ما اعجبني منها المثل القائل ( زدايمويه بوتي) أي انزع لها البوت ، او احياناً تقال بطريقة اكثر ادباً ( تشبا بان زدايمويه بوتي) يجب يا سيد ان تنزع لها البوت ( أي الحذاء) ولا اعلم ان كان هذا المثل وارداً من نفس الاسباب التي اوجدت لدينا المثل ( يخوض بيه للرجاب) او غيره، ولكنه بالتاكيد وارد من وجود بعض القضايا او المشاكل ذات الاهمية الكبرى التي تستدعي جل الاهتمام بها ليس بالصور الاعتيادية او الرتيبة المتعارف عليها، بل يجب ان تكون باقصى درجات الاهتمام كما هي حملات كري الانهار لدينا، او رفع الثلوج التي يبلغ ارتفاعها في الشتاء الامتار وتملأ الطرق او الممرات، او ما يماثلها من حالات الطوارئ المتسببة عن الفيضانات أو غزارة الامطار أو غيرها التي يجب ان يحسب لها كل حساب، والامر نفسه نراه في معالجة جملة من متطلبات تلك الاختناق الخاصة بالعمل في هذه الدائرة او تلك مما يعد من المشاكل العويصة، فيكون المثل الدقيق المعبر هو يجب ان تنزع لها البوت دليلاً على ان الامر يتطلب الخوض في وحلها حتى الركاب كما يقول المثل لدينا. في عراقنا الجديد حالياً، القديم سابقاً، هناك الكثير من الامور والحالات التي يتطلب حلها ان ينزع لها البوت، وان ذكرتها تلك عزيزي القارئ قد يكون في ذلك تكرار ممل ولكن ذكر الحالة دليل على صلة الكلام وانطباق المثل ( على رأي المثل كما يقول اخواننا المصريون) على الواقع الذي نتكلم عنه، فكل عراقي في ايامنا هذه حتى يستطيع ان يدبر امور عيشه كـ( نفطه وغازه وبانزينه وماؤه وكهرباؤه، وهوية احواله المدنية ،وشهادة جنسيته وجوازه وانتقاله ومصاريف اولاده ودراستهم وغيرها الكثير من اموره الخاصة) عليه ان ينزع لها البوت، والعراقي حتى يستطيع ان يعيش في داره، في شارعه، او محلته، يقتضي الامر ان يكون هناك مسؤولو تنظيف وادارة ( مخاتير ) وحماية امنية ليلاً ونهاراً وخدمات بلدية واجتماعية يقوم عليها مسؤولون ليس ممن يعدون اياماً ويقبضون رواتباً، وانما مسؤولون ينزعون لها البوت ( يخوضون فيها للرجاب – الركاب) وفي المدينة سواء كانت العاصمة او مركز المحافظة ينبغي ان يكون هناك مسؤولون على امنها واستقرارها ونظافتها وصحتها ، مائها ، كهربائها ، اتصالاتها والنقل داخلها او خارجها ، واسكان ابنائها ، ومدارسها ، ومعاهدها، والرعاية الاجتماعية والانسانية فيها وغيرها الكثير من الامور والشؤون. ينبغي على هؤلاء المسؤولين ان ينزعوا لها البوت، وان سألتني كيف يكون ذلك؟ فاقول لحضرتك عزيز القاريء هو ان يكون موقع هذا المسؤول في قلب الحدث، وليس خلف المكتب حيث يعتقد الاداريون البيراقراطيون ان حل المشاكل يمكن ان يكون على وفق كتابنا وكتابكم وبالهوامش والمطالعات وطول الورق او القصاصات او بموافق وحسب القوانين والتعليمات، أو السيد المدير والسيد المدير العام، حل المشاكل والمعضلات يتطلب ان يستطيع المسؤول ان يتخذ القرار ويمسك بالزمام ويكون في موقع الحدث لاتخاذ القرار بلا خوف من مسئولية، ولا تفكير بوجود صلاحيات حتى في الصرف وتوفير الاموال، إذ يمكن تجاوز القانون والتعليمات وفق قانون ساسون حسقيل، في قانون اصول محاسباته العام، حيث اورد نصاً اجاز للمسؤول اتخاذ القرار وتجاوز الممنوعات ان كانت المصلحة العامة تتطلب مثل هذا القرار، ولكن نادراً ما بادر مسؤول باتخاذ مثل هذا القرار الجريء، لان الخوف من المحاسبة والمسؤوليات تجعله خائفاً من اتخاذ القرار فلا ينزع لها البوت ولا يخوض بها للرجاب، بل دائماً هو دخيل رب العباد، فكيف يسهل حل المعضلات بدون جهد وعناء؟ وان استمررت في الكلام فاني اقول ان اوضاعنا تتطلب ان يخوض المسئول من اجل انهاء الازمات التي على المسئول عن حلها ان يتخطى حتى الرجاب (الركاب) او ان ينزع لها البوت، لان عليه الوقوف على صغار الامور وكبائرها في وزارته ، قطاعاته ، مؤسساته، او أي تسمية كانت، فلا بدلة و لارباط، بل سفاري كسفاري ماوتسي تونغ حيث لا تشليه ولا نزع بوت اذ يساعد السفاري على الخوض فيها حتى الرجاب، ولا مكاتب فارهة ولا سكرتيرات، بل منضدة بسيطة وغرفة بلا مكيفات، بل بضع مهفات حتى تعود الكهرباء، وبفضلها يعود الماء والذي بفضله تعود الحياة ، ويضخ البانزين والكاز ويلحقها النفط والغاز وتفتح كل انواع الحوانيت الابواب ويدب النشاط الاقتصادي ولا يبقى عذر لهذا المسؤول الصغير، او الكبير، او ذاك فينزع جميعهم البوت ويخوضون بها حد الرجاب لتعود الحياة الى وزارتهم ومؤسساتهم بعد ان كل ذلك يا عزيزي القاريء حصل بعد ان نزع مسؤولنا لها (البوتات) متجاوزين راحة وعذوبة مكاتبهم الفارهة المبردة بالاركندشنات.
أ. د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
بطالة وعطالة
العمل هو الاساس والعامل الرئيسي لكل ما وصلت اليه البشريه من تقدم ورقي، وقد من الله سبحانه وتعالى على الانسان بنعمه العقل الذي استطاع من خلال تطويع الطبيعه لتامين احتياجاته وديمومة بقائه، فكان فكرة الاخلاق سبيل رقيه وتقدمه دائما، وقد خاطب القران الكريم الانسان وحثه على العمل في العديد من الايات القرانيه منها قوله تعالى :” فقل اعملو فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون” وجاء في الاثر قول الرسول (ص) :”هذه يد يحبها الله ورسوله”. لذلك نجد ان فلسفة الاقتصاد الاسلامي ركزت على عنصر العمل بأنه الاساس الرئيس في خلق الانتاج وزيادته وعلى العكس من الفكر الرأسمالي الذي عد عوامل الانتاج هي اربعة: الطبيعة والعمل ورأس المال والتنظيم، وركز الفكر الاقتصادي الاسلامي على العمل باعتباره العامل الوحيد لخلق الانتاج، اما الندرة في الموارد التي اسهب الفكر الرأسمالي في التركيز عليها كمشكلة اقتصادية لم تكن لها اهمية تذكر في الفكر الاقتصاد الاسلامي لان الله قد اغدق بخيراته على خلقه، ولكن افراط الانسان وتبذيره للموارد وسوء توزيعها هي المشكلة الاساس، وليس غريباً ان يحذو الفكر الاشتراكي حذو الفكر الاسلامي في نهجهه هذا. اعود فأقول ان ما وددت التأكيد عليه في مقدمتي هذه ان العمل حق لجميع بني البشر يسعون اليه وعلى اولي الامر من دول وحكومات ومسؤولين ان يوفره لهم، وهذا واجب عليهم وليس منه منهم كما نشهد او نسمع او يذكر بعض رؤوساء الحكومات او المسؤولين بانهم وفروا او سيوفر فرص عمل للحد من البطالة، ذلك واجبهم الرئيسي وليس ثانوي كما يذكرون او يضنون. هل هناك بطالة في العراق؟ نعم ان هناك بطالة اولا وان هناك عطالة ثانية فالوزارات المختصة والتي هي في هذا الجانب وزارة التخطيط ووزارة العمل والشؤون الاجتماعية ووزارة المالية، وكذلك المعاهد المختصة. على الرغم من قلتها وحداثتها فالاستشاريون الاختصاصيون فيها يقدرون حجم البطالة في العراق ما بين 25 – 40% من قواه البشرية القادرة على العمل وعلى الرغم من عدم وجود احصاءات دقيقة بخصوص ذلك فهي في تقديري لاتقل عن 30% في احسن الاحوال، وهذا الحال ناجم من عوامل كثيرة منها على سبيل المثال الآتي:- 1. قلة استخدام الايدي العاملة القادرة على العمل من كل القطاعات الحكومية الاقتصادية الانتاجية بالدرجة الاولى وذلك لتعطل اغلب مؤسسات هذه القطاعات وعدم تحديثها لان الدولة لم تحسم قرارها في تشغيلها بعد تحديثها او خصخصتها” او التخلص منها ” فضلاً عن عدم مباشرة الدولة ولاسباب كثيرة في اعادة الاعمار واصلاح البنى التحتية وتوسيعها كما يقتضي المنطق الاقتصادي ذلك. 2. عدم مباشرة القطاع الخاص بنشاطه الاقتصادي الانتاجي والخدمي لاسباب كثيرة منها بالدرجة الاساس عدم اطمئنانه عن طبيعة توجه الحكومة الحالية او المستقبلية الاقتصادية فضلاً عن عدم وضوح السياسات المالية الضريبية والكمركية والاستيرادية والانفتاح الاستيرادي لجميع السلع الاستهلاكية منها الانتاجية خصوصا وكذلك جعل القطاع الخاص يقف منتظراً ومتريثاً لما ستؤول اليه الامور في المستقبل حتى يحزم امره ويتخذ قراره لذلك كان استخدام الايدي العاملة في القطاعات الخاصة ضعيفاً ان لم يجر تقليصه . 3. لم تجر الدولة عبر وزاراتها المتخصصة أي تحفيز “حسب علمي” للنشاط الخاص الفردي سواء بتقديم الدراسات للشباب الراغب في هذا الاستثمار او بالاقراض بالشروط المناسبة ليتسنى له المباشرة بالتنفيذ بدلاً من بقائه عاطلاً عن العمل او باحثا عن وظيفة يعد بها اياما ويقبض راتباً. 4. ضعف الشبكة المصرفية التجارية حكومية كانت او خاصة في المساهمة في تحفيز النشاط الاقتصادي الاستثماري منها خصوصاً وذلك لاسباب عدة منها: أ. البيروقراطية والفساد الاداري “كما اعتقد” . ب. قلة خبراتها الصيرفية وضعف كفاية منتسبيها . ت. تقليدية ادارتها ونشاطاتها وعدم انفتاحها. 5. قلة الخيرة في الاستثمار والاعمال الحرة وضعف مستوى التعلم الاداري للاعمال والتصنيع وغيرها من الأنشطة التي يمكن ان توفر للشباب القادر على العمل الكثير من الفرص المناسبة ولعل هناك الكثير من العوامل الاخرى التي ساهمت في زيادة عدد الايدي العاطلة في البلد وارتفاع نسبها ومنها الأتي: أ. تسريح أو حل الجيش العراقي وتشكيلات قوات الامن والشرطة الخاصة والتي كان عددها يقارب المليون شخص. ب. عودة الكثير من العراقيين المهجرين او اللاجئين او المغتربين من العراق في دول اخرى بسبب سياسات النظام السابق او لاسباب عدة وهناك اسباب اخرى متفرقة وعديدة . وهذا ما يتعلق بجانب البطالة اما العطالة فاني استطيع اجمالها بالاتي: اولاً: احتواء الجهاز الحكومي وبسرعة فائقة اعدادا كبيرة من الموظفين الاداريين وذلك لعودة المجازين منهم لفترة طويلة او تاركي العمل لانخفاض الرواتب او التعيينات التي جرت املاء للدرجات الوظيفية الشاغرة بعد تحسن الرواتب والاجور او توفر فرص العمل بعقود مما جعل جهاز الدولة الاداري في الوقت الحاضر مترهلاً باعداد كبيرة منهم لم يجر احصائها لكثرتها وعدم اهتمام الوزارات المختصة المؤقتة بنوعية الاداء بل تسيير الامور قدر الامكان ، مما جعل الوزارة المالية تتردد في اعطاء الدرجات الوظيفية باي صورة كانت شعوراً منها بانفلات الملاك وحشر الموظفين حشراً في الغرف والصالات حتى اصبح الشح في اعطاء الدرجات لاهم الوظائف والملاكات كالاساتذة الجامعيين والملاكات الفنية من مهندسين واطباء وصيادلة وفنيين، ان مراجعات الخريجين باختصاصات عالية للبحث عن وظائف وباجور زهيدة وهو امر يحز في النفس ويدمي القلب فمتى تستقيم الامور وتقيم الكفاءات ويجد الجميع مجالاً لرزقهم حسب كفاءتهم وهي في اعتقادي من ايسر الامور واسهلها لشباب هذا الوطن الوافر بالخيرات. ثانياً: اما المظهر الاخر للعطالة هو كثرة الاعمال الخدمية او الهامشية او البسيطة التي يمتهنها الكثير من الشباب كالحراسة التي املتها الظروف الامنية او اعمال البناء الوقتية غير الدائمة او اعمال البيع على الارصفة والطرقات او المضاربات البسيطة او الاعمال الهامشية مؤقتة او طارئة والتي هي من غير من غير اختصاصهم او قابليتهم ، ان هذا كله عطالة وليس عمالة لانها يمكن الاستغناء عنها وهي غير منتجة وغير ضرورية كما انها غير مجزية ان لم تكن احياناً مهينة لمن يمارسها لعدم مناسبتها مما تؤدي هذه العطالة من ضرر كبير في انتاجية القطر ودخله القومي الاجمالي وصافيه. ما هو السبيل للقضاء على ظاهرة البطالة؟ وللاجابة على هذا السؤال فاني ارى الآتي: 1. ضرورة المباشرة وبسرعة مناسبة في اعمال اعادة الاعمار واعادة البنى التحتية للاقتصاد العراقي عامة ومن ثم توسيع قواعد هذه البنى وتحديدها وتوسيعها لاهمية ذلك من ناحيتين هما: أ. عدم ابقاء وضع البنى الارتكازية للاقتصاد العراقي بهذه الصورة المأساوية فضلاً عن الحاجة للتحديث والتطور لجميع القطاعات الاقتصادية الاساسية التي يحتاجها الاقتصاد العراقي ومنها النفط والغاز والكهرباء والري والنقل والمواصلات والاتصالات والتجارة الداخلية والخارجية والانشاء والاسكان وبالنسبة للقطاعات الاقتصادية الخدمية كالدفاع والامن والصحة والتربية والتعليم والثقافة والخدمات الاجتماعية الاخرى، اذ لا يمكن ان تحصل أي تنمية اقتصادية من دون توفر ما ذكرت بالصورة المناسبة . ب. ان الانفاق الاستثماري الذي سيحصل في سبيل تحقيق ما ذكرته اعلاه سيكون له افضل الاثر في تسريع وتيرة نمو الاقتصاد العراقي باقصى سرعة ممكنة وبصورة مشابهة لما حدث في منتصف السبعينات، وحيث ان الاقتصاد العراقي يعاني من حالة الركود فان القاء مثل هذه الكتلة الاستثمارية في حوضه ستؤدي “على وفق نظرية المضاعف الكنزية ” الى ارتدادات متعددة في الجوانب الاستهلاكية والاستثمارية وبالتالي ستؤدي الى زيادة الطلب الفعال والى استمرار تشغيل الايدي العاملة بصورة اسرع وبأجور اعلى مما تؤدي الى ارتفاع نسب نمو الاقتصاد العراقي وتحسينه. 2. ضرورة قيام الدولة بطمأنة القطاع الخاص وبجميع نشاطاته بأن لهم دوراً هاماً في التسمية الاقتصادية وان سياسة الدولة هي تحفيزهم على تشغيل معاملهم ومتاجرهم وغيرها في منتهى الحرية والشفافية وضرورة اعفائهم لفترة عشر سنوات على الاقل من الرسوم الكمركية وضرائب الدخل وغيرها فضلاً عن تقليل الاساليب الادارية الرئيسة في تعامل الدولة معهم وذلك لاهمية استقرار الاوضاع الاقتصادية والمالية والقانونية والادارية ليكون اتخاذ القرار بالنسبة لهم من بينة واضحة شفافة وليس مظلمة مشوشة ولا شك ان في ذلك دافعاً كبيراً لاستثمار وفير. 3. ضرورة قيام الدولة بتشجيع اصحاب رؤوس الاموال والمدخرين من استثمار اموالهم بمشاريع مناسبة او المساهمة في تأسيس شركات مناسبة في مجالات اقتصادية مهمة مجدية ومربحة بدلاً من بقاء اموالهم معطلة ومكتنزة ومن المعروف ان الاكتناز محرم شرعاً، وثبت انه احد الاسباب الهامة لحصول الازمات الاقتصادية في الاقتصادات الحرة، وبذلك يتحقق جذب كبير من الايدي العاملة في سوق العمل وبدلاً من بقائها معطلة تكون فعالة ومنتجة ومستهلكة . 4. تشجيع الشباب من حملة الشهادات العلمية المناسبة بإقامة مشاريعهم الخاصة المنتجة وذلك بتهيئة الدراسات الخاصة اللازمة الموجهة لاستثماراتهم بفضل قابليتهم وشهاداتهم الخاصة وبفضل توفير التمويل اللازم بواسطة الوزارات المختصة ومؤسساتها ومنشأتها وخصوصا وزارة التخطيط ووزارة المالية. 5. وينبغي اعادة النظر في وضع البنوك التجارية الحكومية والخاصة برفع كفايتها ونشر فروعها في جميع انحاء القطر ليكون ضخ الاموال وسحبها واسعاً ومنتشراً في جميع انحاء القطر وبكل كفاية وحداثة مصرفية اسوة بمصارف العالم المتقدمة . 6. توجيه نسبة عالية من المساعدات والمنح المالية نحو الاستثمارات العامة او تخصيصها للاقتراض الاستثماري بمختلف انواعه لتأمين سيولة مالية مناسبة لمختلف الانشطة. 7.ولا شك ان هناك الكثير من اوجه الانفاق التي يمكن ان تساعد في تشغيل الشباب العاطل عن العمل او العطالة المقنعة والتي هي مختلفة ومتنوعة ولكني تحدثت عن اهمها. ماهو السبيل للقضاء على العطالة؟ وللاجابة على هذا السؤال فاني ارى الآتي: 1. ان ما ذكرته في اعلاه سيؤدي حتماً الى سحب الكثير من الشباب او الايدي العاملة التي هي في الحقيقة تمثل بطالة مقنعة او عطالة الى مجالات عمل اكثر اجراً او دخلاً واضمن من جميع جوانبها المادية والمالية. 2. ينبغي ان تعيد الدولة النظر في هياكلها الادارية وتشكيلاتها الحكومية وبنفس الوقت هياكلها الوظيفية لتكون رشيقة وكفؤة وتتخلص من العمالة الفائضة المكلفة كثيراً من الجوانب المالية والمعرقلة كثيراً من النواحي الادارية.
أ. د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
انفلونزا الطيور وانفلونزا العقول
قبل الشروع في سرد خاطرتي هذه تتطلب الأمانة أن اعترف باني استعرت عنوانها من مذكرة لاحد الموظفين العاملين معي, وعندما رغبت ان اقابله قدم طلبًا لنقله الى دائرة أخرى، ولا اعلم إن كان غير مقتنع بالبقاء في العمل معي أو خوفًا من لومه على إنهاء مذكرته بهذه العبارة، في حين كنت راغب في أن أهنئه على ما توصل اليه من استنتاج: أن هناك أنفلونزا عقول، وليس أنفلونزا طيور فقط. بدءا أرى أن من الضروري ذكر تأريخ مرض الانفلونزا وانتشاره في العراق, وحسبما أتذكر فانه انتشر عام 1956، وكان عنيفًا وعنيدًا بسرعة انتشاره وصعوبة علاجه، وغالبًا ما نحتاج لفترة غير قصيرة للخلاص منه. وسبب تذكري لصفاته إصابة أخي الكبير في ذلك العام بهذا المرض، الذي كاد ينهي حياته لولا مشيئة الله، فكتب له النجاة منه. كما كان لوقوعه ولشيوعه صدى عند أفضل قراء المراثي الدينية في واحد من أكبر جوامع مدينة الحلة؛ فكان هذا القارئ يدعو الله أن يحفظ العراق من كل خطر، ومن (القنزة ونزة) حينها ضج الجالسون بالضحك. أما الجامعات والمؤسسات والباحثون المتخصصون، في العلوم الطبية والبيولوجية، وكما هو معلوم، فسعوا إلى تطوير وسائل مكافحته، وبنجاحهم قلت مخاطره. ومنذ ذلك الحين خف الحديث عن الأنفلونزا، لكن في السنوات الثلاث أو الأربع الأخيرة بدئنا نسمع عن ظهور نوع جديد من الأنفلونزا يصيب الطيور، وقضى على مجاميع منها، لان من مخاطره أنه يمكن أن ينتقل بوسائل شتى الى الإنسان، فمات في بعض الدول عدد من مواطنيها، وتبين فعلا أن عدوى المرض انتقلت من الطيور اليهم. فماذا حدث بسبب ذلك؟ باشرت حكومات الدول التي ظهر فيها المرض بإعدام الملايين من الدجاج والبط والاوز (وحتى خضيري أهوار العمارة، إن طار إليهم!) وشملت هذه الحملة الظالمة المصاب، و غير المصاب، المسكين الذي لا يعلم بأي ذنب يقتل او يباد. وإن كان الشاعر الفيلسوف ابو العلاء المعري قد اشفق على فروجة الدجاج عندما قدموا لها حساءها بقوله :
استضعفوك فوصفوك هلا وصفوا شبل الاسد
فاني اقول لملايين (ولربما مليارات) الدجاج المباد: استضعفوك فأبادوك وإلا لأبادوا الاسود, لان من امر بابادتها ليس بقادر على مثل هذا العمل، إن وجد نوع آخر من الأنفلونزا يصيب الأسود ويمكن أن ينتقل إلى الإنسان! أعود الآن إلى الجزء الآخر من هذه الخاطرة، التي رجا شوفير التاكسي المتجه الى بيروت ان اسرع بكتابتها ونشرها في جميع الصحف المحلية والعالمية، عندما علقت على أمر ما يخصه، باني سأكتب قريبًا خاطرة بعنوان (انفلونزا العقول اخطر الاف المرات من انفلونزا الطيور) ـ ولربما ضن باني وصلت لمرحلة العالمية في الكتابة. إن كانت أنفلونزا الطيور قد تسببت بوفاة واحد أو اثنين في هذا البلد او ذاك، وحتى لو فرضنا موت عشرين أو خمسين أو مائة، فان الإنسان بادر إلى قتل مئات الملايين منها، من دون ذنب، وبلا محاكمة، ولا استئناف، أو تمييز لقرار الحكم الغريب العجيب هذا، برغم خلوه من الرحمة أو الشفقة, فيماخصصت ملايين الدولارات (او اليورو او الماركات, وحتى الدنانير والليرات) لتنفيذه. فلماذا لا تصدر الاحكام بهذه السرعة، او العجالة لابادة، او ذبح من هم مصابون بمرض أنفلونزا العقول؟ ولماذا لا تخصص مبالغ مشابهة أو مقاربة لما خصص للقضاء على انفلونزا الطيور من أجل القضاء على مرض انفلونزا العقول؟ هل هم اسود فيخشون منهم إلى هذا الحد ام ان الكثير ممن اصدر مثل هذه الاحكام هم أيضا ممن أصيب بهذا المرض الخطير؟ أدعو الله أن لا يكونوا كذلك. لو قلبنا صفحات التأريخ القديم، أو الحديث، لوجدنا الكثير من الحكّام أو المتسلطين، كانوا مرضى بأنفلونزا العقول؛ فقتلوا، أو اعدموا، أو ذبحوا، أو أبادوا، أو اهلكوا (أو مارسوها كلها) ملايين البشر من دون ذنب او جريرة. كم من الطغاة المصابين بانفلونزا العقول تسببوا في موت الملايين؛ مثل نيرون وآخرين قادوا هذه الإمبراطورية أو تلك، أو في هذه المملكة أو تلك، في أزمنة غابرة أو حديثة. كم ذبح الحجاج وامثاله في بلادنا العربية والإسلامية؟ الم يكونوا مصابين بانفلونزا العقول واثبت التأريخ ذلك؟ كيف نصنف ما قام به تجار العبيد السود، حين ساقوا أبناء أفريقيا المساكين كالخرفان الى أميركا، وقدّموهم إلى رأسمالييها الذين عاملوهم بأقسى صنوف التعسف والاستعباد؟ ألا يدخل فعل تجار الرقيق هذا ضمن ممارسات مرضى العقول والقلوب؟ هل كان هتلر انسانًا عاقلاً ام مريضًا عقليًا؟ فدمر ألمانيا ودول أخرى، وكانت نتيجة حربه وعدوانه موت عشرين مليون من البشر, اليس هذا الفوهرر مصاب بأنفلونزا العقول؟ ماذا عمل ستالين الذي لم يحكم إلا بالظلم والاستبداد فأباد الرفاق قبل الغرباء، وقتل الملايين في حملات ابادة وتهجير لا تقل عن شبيهتها حملة الأنفال؟ الم يكن ستالين مصابًا بمرض عقلي فارتكب ما ارتكب من جرائم وأفعال، ودمر الاشتراكية قبل الرأسمالية؟ ماذا عمل سوهارتو باندونيسيا عندما انقلب على رفيقه سوكارنو فاباد الملايين من البشر؟ ماذا كان يعمل شاوشيسكو وزوجته بالشعب الروماني؟ فقدر الله لذلك الشعب المسكين ان يتخلص من هذا المدعي بالاشتراكية والانسانية زورًا وبهتانًا, ماذا فعل بول بوت قائد الخمير الحمر (عفوًا الحمير الصفر) بشعب كمبوديا، وهو الذي يدعي بالاشتراكية، فأباد الملايين والمقابر الجماعية التي تكتشف يومًا بعد يوم تشهد بذلك؟ إن هؤلاء كانوا مصابين بمرض انفلونزا العقول (او اي مرض اخر) فعاثوا في الارض فسادًا, ولكن يا ترى هل المصابون بأنفلونزا العقول قد انتهوا ام لا يزال الكثير؟ نعم لا يزل منهم ومن أشباههم الكثير، وخاصة في بلادنا الاسلامية والعربية، وإنّ منهم من لقى حتفه، ومنهم من ينتظر! فإني أتوقع أن يظهر في المستقبل الكثير من هؤلاء (والله يستر!) وان ركزت على الحكام المصابين بداء في عقولهم (او ادمغتهم) فان هناك يا قارئي العزيز العدد الكثير، الكثير، من هؤلاء، فليس الاستبداد سوى عرض واحد من أعراض هذه الأنفلونزا، وهناك أعراض اخرى, فألا تتفق معي أن كلّ مختلس، ومفسد، ومجرم، وقاتل، ومغتصب، وسارق، ومعتد في مجتمعنا مصاب بأنفلونزا العقول.. إنهم جميعًا كذلك، وإن لم يكن مرضهم انفلونزا العقول، فهو (قنزة ونزة) العقول، على حد تعبير قارىء جامع الحلة الكبير! كما لا يفوتني أن اذكر نوعا آخر من الناس: أناس مصابون بأنفلونزا العقول، أيضا، وهم أولئك الذين لا ينظرون إلى الأمور إلا من زاوية واحدة، هي وجهة نظرهم وحدهم، ولا يقبلون أي حوار أو نقاش مع وجهة النظر الأخرى، فيديرون ظهورهم لرأي الآخرين، ولا يأبهون بها متناسين طبيعة الأمور، ويختلط الحابل بالنابل إن هم تولوا أية مسؤولية أو قيادة. اقول وادعوا حكوماتنا وحكومات العالم أجمع للرحمة بملايين الدجاج لكون انفلاونزاها لم تقتل الا بضع مئات من البشر في حين أن أنفلاونزنا (أنفلونزا العقول) قتلت الملايين منهم. وإن لم تتخذ خطوات عالمية ووطنية جدية، فسوف يستمر في الفتك بملايين البشر.
أ. د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
الملكة آن والحكمة
قبل خمسة وعشرين عاماً زرت يوماً معرض بغداد الذي اقيمت دورته على الرغم من الحرب المستعرة وتساقط الابرياء شهداء، وفي اثناء جولتي في ذلك المعرض دلفت حينها في جناح إحدى الدول الاسكندنافية، والدول التي حباها الله بأجمل الجبال والوديان والبحار، والتي أعطى أبناءها رجاحة العقل والرحمة والاحسان في الفؤاد، وتميّز اقتصادها بالمزج بين محاسن كلا النظامين الرأسمالي والاشتراكي ورفض مساوتهما، والتي منها أصبحت ارقى شعوب العالم في الاقتصاد والاجتماع. في ذلك المعرض كانت هناك نشرة دعاية أو إعلام لتلك البلاد وكانت فيها موضوعات اقتصادية واجتماعية وثقافية وادبية وسياسية اكثر مما هو دعاية لبضاعة أو انتاج، استفدت حينها حقيقة من تلك النشرة كثيراً وما زالت موضوعاتها الشيقة والمتنوعة اتذكرها جيداً، كتبت عن واحدة منها خاطرة اقتصادية وها انذا اكتب خاطرة اخرى لا اعلم ما نوعها إن كانت اجتماعية أم سياسية ولكني اعتقد أنها تحتوي على موضوعات عديدة تستطيع عزيزي القاريء تلمسها بعد انتهائي من قصها عليك، كانت تلك النشرة تتضمن موضوعاً بعنوان (الملكة آن) وهو اسم ملكة تلك الدولة، كانت صورة تلك الملكة في وسط الصفحة، ولكن أية ملكة، هي ليست ملكة زنوبيا ولا ملكة بريطانيا حيث التيجان والصولجانات ولا فرس ولا فرسان ولا غيرها من مصفحات ودبابات بل كانت هذه الملكة في تلك الصورة واقفة في سوق شعبي في عاصمة مملكتها الجميلة مرتدية بنطلون جينز وقميص (تي شيرت) نصف ردن (وليس ربع) تمسك بيديها دراجتها الهوائية تتحدث مع مجموعة من النسوة الشابات والعجائز، يتبادلن الحديث والابتسامات يقول المقال (عزيزي القاريء): إنه لو قدر لهذه البلاد (أي مملكة آن) أن تتحول الى جمهورية لما انتخب شعبها غير الملكة آن رئيساً لجمهوريتها والسبب في ذلك ليس القوة والسلطان وليس بسبب تزوير الانتخابات ولا بفضل السجون والمعتقلات او تكميم الفم أو قص الأذن واللسان ولكن السبب هو أن شعب هذه البلاد سوف ينتخبها رئيساً للجمهورية لانها الملكة الدبولوماسية والادبية والمثقفة والكاتبة وعازفة البيانو والكمان وهي الرياضية وهي رئيسة فعلية أو فخرية للعديد من الجمعيات الخيرية راعية الشيوخ والاطفال ويستمر في ذكر ما تتمتع به من صفات التواضع والاخلاق وجولات تفقد الاحوال، احوال شعبها، او رعيتها الذي ترعاه . لا اخفيك عزيزي القارئ بأعجابي بصفات وخصال وانشطة الملكة آن فضلاً عمّا حباها الله من جمال وقلت في نفسي: حقاً، لو كنت من ابناء هذا الشعب لانتخبت الملكة آن لتكون رئيساً للجمهورية او تبقى ملكة طوال الحياة، لأنها الان لديها صفة أو ميزة اخرى كونها تقدمت في العمر واصبح عمرها ستين عاماً (كما اقدر) ومن المؤكد انها اصبحت بفضل العمر حكيمة ايضاً فلذلك زادت صفاتها ومميزاتها وزاد شعبها سعادة وحبوراً وذلك كما يقول المثل اليوناني القديم (سعيد الشعب الذي يحكمه ملك حكيم) واختتم خاطرتي هذه بالدعاء للرب العظيم أن ينعم على جميع الملوك والرؤساء والذي ينتظر دوره ليكون ملكاً أو رئيساً على هذا الشعب أو ذاك أن يحبوه بذات صفات ومميزات الملكة آن.
أ. د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
اعتماد المعايير الكلفوية في القطاعات الخدمية عامل مهم في دقة تخطيط موازنتها والرقابة عليها
كانت الموازنات المالية منذ قديم الازمان، وان اخذت هذه الصورة او تلك ولكنها كانت ضرورة لكل سلطة قامت على مر العصور، وكتب التاريخ القديم تحدثنا عن ذلك كثيراً في الحضارات السومرية او الاشورية او البابلية او الفرعونية وليس اكثر دلالة على اهميتها هو قيام النبي يوسف بتنظيم موازنة الغذاء للفرعون وبالوقت نفسه جعله مسؤولاً عن خزائنه لانه ولي وعليم. وفي الاسلام حيث هو دين ودولة، نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) يكلف احد الصحابة بوضع تقديرات لما سيوفر لبين المال المسلمين من اموال ، وما يجب ان ينفق منها، وفي خلافة عمر بن الخطاب وضعت تفصيلات السياسة الاقتصادية والادارية للاموال المسلمين فكان ديوان وكان التدوين اهم المنجزات المحاسبية في تلك الحقبة من صدر الاسلام، وفي زمن الدولة العباسية ،وما تميزت به من رقي وتقدم اقتصادي وحضاري، نجد هناك موازنات مالية يعدها صاحب المال غالباً، وقد تطور اعداد تلك الموازنات فاصبح صاحب بيت المال يكلف باعداد موازنات مادية ومالية، كما ولسعة الدولة العباسية وكثرة اقاليمها كانت هناك موازنة مركزية وموازنات محلية تخص تلك الاقاليم، يحول فائضها الى الموازنة المركزية ويسد عجزها في تلك الموازنة “أي المركزية” ايضاً، وكتب التاريخ والفقه الاسلامي تتضمن شروحاً مفصلة في ذلك، اما الفكر المالي الذي كان يوصف به اعداد الموازنات في تلك الفترة او تخطيطها، وهو ان التوازن عين الدقة والتدبير وان فيض الايرادات على النفقات هو دليل الكفاية في تقدير الايرادات وحيازتها والانفاق منها برشد وعقلانية، اما العجز في موازنة بيت المال “أي زيادة الانفاق بأكثر من الواردات” فهو دليل التبذير وعدم التمكن من التصرف في الاموال برشد وعقلانية. ان ما ذكرته في مقدمتي هذه لتوضيح تقدم الفكر الاقتصادي المالي الاسلامي على الفكر الوضعي الغربي الذي لم يعرف تلك المبادئ الهامة لتخطيط موازنة الدولة الا بعد سيادة الفكر الاقتصادي الحر في القرن السابع عشر وما بعده اذ كان يسود مبدأ “دعه يعمل دعه يمر”، ولا علاقة للدولة بالنشاط الاقتصادي وانما عليها الاكتفاء فقط بواجباتها السيادية الاساسية فقد اكتفت بدور الحراسة وما يتطلبه هذا الدور من موازنة تغطي احتياجاتها بوصفها دولة حارس، وهذا ما جعل قواعد تخطيط الموازنة في الدول الاوربية هي قواعد ادارية وليس كلفوية ترشيدية واعتمد في ذلك التصنيف الاداري ليتوافق مع التخطيط الاداري لموازنة الدولة . بعد التطورات التي حصلت في العالم الرأسمالي باعتناقها الاراء الاقتصادية الكنزية واعتمادها موازنة الدولة اداة للتدخل الاقتصادي وزيادة الانفاق الاستثماري وكذلك زيادة الانفاق الاستهلاكي على القطاعات الخدمية لتحقيق التنمية والرفاه الاجتماعي بدأت تخصيصات موازنة الدولة بالازدياد والنمو المستمرين مما تطلب البحث عن مصادر جديدة او اضافية للتمويل ومنها بطبيعة الحال ضريبة الدخل او غيرها من المصادر التقليدية، وهذا ما دفع الكونكرس الامريكي في بداية الخمسينيات الى تكليف لجنة خاصة برئاسة السناتور هوفر لوضع قوانين جديدة او تحديث قوانين قائمة بهدف تطوير وتحديث الاقتصاد الامريكي وادارته وكان من ضمن مقترحات تلك اللجنة “أي لجنة هوفر” ضرورة اعتماد اسس جديدة لتخطيط موازنة الدولة الامريكية وسميت “بموازنة الاداء” فما هي اهم تلك الاسس التي تحققها موازنة الاداء ، فهي الاتية: اولاً: التخلي عن الاساس الاداري لتخطيط موازنة الدولة لانه يعتمد مبادئ جزافية وليس علمية كلفوية في تحديد التخصيصات المالية لانفاق القطاعات الخدمية. ثانياً: اعتماد معايير كلفوية دقيقة تعتمدها مؤسسات القطاعات الخدمية لاحتساب مجمل التخصيصات المالية التي تحتاجها لانفاقها. ثالثاً: عند اعتماد التخصيصات المالية السنوية المحسوبة على وفق معايير كلفوية دقيقة فان الامر يقتضي ادارة الوحدات الاقتصادية الخدمية والاستفادة من تلك التخصيصات بصورة كاملة . رابعاً: بعد انتهاء السنة المعنية ينبغي ان يتم التحقيق من كفاية الاداء ولاستفادة من التخصيصات المالية كلها لتحقيق كفاية الاداء الاداري وفي حالة وجود انحراف سالب بين مانفذ وما خطط فيقتضي الامر التحقق عن اسبابه السلبية “بطبيعة الحال” واجراء المحاسبة الدقيقة عنه. اخيراً: اجراء التطوير والتحديث اللازم على النظم الادارية والمحاسبية ووجعلها تتلاءم او تتوافق مع مستلزمات اسس تخطيط الموازنة الكلفوية الجديدة، ويتوقف الامر على الجانب المحاسبي فقد كان التحول من الاساس النقدي الى اساس الالتزام كفيلاً بتحقيق هذا الغرض وهو امكانية عكس معلومات ادق عن مستوى الاستفادة من التخصيصات المالية واستنفادها لفترة عقد من الزمان حققت هذه الاسس والاساليب تطوراً كبيراً في تخطيط موازنة الدولة في العالم الرأسمالي وكانت هي الاساس وما زالت تشكل القاعدة مع تطور افضل واكثر ملائمة وتوافقاً لتطورات كثيرة اخرى حدثت في العالم الرأسمالي “والولايات المتحدة خاصة” والتي هي ليست موضوع ندوتنا هذه ” المعايير الكلفوية ومدى الاستفادة منها في تخطيط موازنة الدولة في العراق” . على الرغم من ان قواعد تخطيط موازنة الدولة في العراق ومنذ تأسيسها وحتى الان تعتمد الاسس التقليدية او الادارية في تخطيط موازنة الدولة، الا ان اعتماد المعايير الكلفوية كان موجوداً بصورة او اخرى في تخطيط موازنة بعض القطاعات الاقتصادية او بعض وحداتها او مؤسساتها ومنها الاتي بشكل خاص:
5. السجون بشكل عام وفي الجيش على سبيل المثال فان الوحدات العسكرية عند تخطيط موازناتها فأنها تاخذ بنظر الاعتبار متطلباتها الاساسية من ابنية ومعدات واجهزة وغيرها ومن ثم تكون هناك معايير محددة للمستلزمات الخاصة لكل فرد.والتي هي :
كيف تساعد المعايير الكلفوية على دقة وكفاية تخطيط موازنة القطاعات الخدمية في العراق؟ لا شك ان الكل يسأل كيف تساعد المعايير الكلفوية على دقة وكفاية تخطيط موازنة القطاعات الخدمية في العراق. ان من المعروف ان الفصل الاول والذي يتضمن نفقات الافراد العاملين من رواتب واجور ومخصصات وغيرها تحتسب على وفق قوانين وانظمة وتعليمات متكاملة لذلك فان احتسابها بالدقة اللازمة امر ممكن فحققت وبشكل عام هو متحقق ومسيطر عليه ، ولكن اذا اخذنا الفصول الاخرى من مستلزمات خدمية وسلعية فسنرى ان تخطيطها لا يزال يتم على وفق الصيغ التقليدية ولكننا اذا انتنقلنا الى موزانة الاداء فان الامر يختلف تماماً لاننا لو افترضنا اننا في معسكر لفوج من الجيش العراقي او الشرطة او الطلاب في قسم داخلي او المرضى في مستشفى او غيرها ويبلغ عددها 500 فرد ممن يقتضي اطعامهم يومياً فضلاً عن تجهيزهم بالادوات والمستلزمات الاخرى فكيف ينبغي ان تحتسب موازنة لتلك الوحدة العسكرية. اولاً: / الرواتب والاجور – يقتضي الامر ان يتم على وفق القوانين والانظمة والتعليمات اضافة الى 50% من كلفة الدرجات الشاغرة. ثانياً: / المصروفات الخدمية – وتحتسب على وفق نسب ممكن ان تصيب او تقتضي ان تؤمن لكل فرد، او فني او خبير او غيرها من المجالات التي يمكن ان تصيبها او تشملها احياناً. ثالثاً: / المستلزمات السلعية – ويتم احتسابها اما حسب المجالات التي تصيبها تلك المستلزمات وعلى وفق مقادير محسوبة او على شكل نسب محددة لكل مجال واذا اخذنا بنظر الاعتبار ان المطلوب اعداده هو موازنة هذه الوحدة نرى ان التخصيصات المالية للطعام سيتم احتسابها بالصورة الاتية:- 1. حيث ان كميات الطعام قد اعدت على وفق جدول غذائي متكامل اعد من مديرية الامور الطبية العسكرية وان مستلزمات الطعام لكل جندي في هذا المعسكر هو – 1000 دينار يومياً فاذن: كلفة يومية / 1000 * عدد المنتسبين / 500 * ايام السنة / 365 = – 172500 دينار الكلفة ” مائة واثنان وسبعون مليون ديناراً وخمسمائة الف” . 2. اما نفقات الصيانة فيتم تحديدها على وفق دراسة دقيقة لمتطلبات الصيانة اللازمة لجميع الموجودات الرأسمالية في الوحدة. 3. اما الانفاق الرأسمالي فينبغي ان يتم على وفق حاجة الوحدة الاقتصادية الخدمية بصورة متكاملة. 4. عند تجميع ارقام التخمينات الاجمالية المطلوبة كموازنة هذه الوحدة يقتضي احتساب الكلفة الاجمالية المتوقعة حسب طبيعة نشاط كل وحدة ومثلاً على ذلك كم هي الكلفة المخططة للانفاق على جندي في معسكر ؟ كم هي الكلفة المخططة للانفاق على شرطي في المركز؟كم هي الكلفة المخططة للانفاق على طالب في مدرسة ابتدائية او اعدادية؟ كم هي الكلفة المخططة للانفاق على طالب في كلية او جامعة؟ كم هي الكلفة المخططة للانفاق على مريض في المستشفى وهكذا الامر بالنسبة لجميع الوحدات الاخرى ومن ثم سيشمل ذلك القطاع باكمله ثم القطاعات الخدمية الاخرى ونكون قد ابتعدنا عن قواعد تخطيط الموازنة التقليدية او الى موازنة مخططة بصورة علمية دقيقة تعبر بصدق عن احتياجات القطاعات الخدمية للتخصيصات المالية دون الحاجة للمبالغة في التقديرات للتخصيصات من قبل وحدات القطاعات الخدمية او شح في تخصيصاتها بسبب ضغوط الدوائر المختصة في وزارة المالية، ولا شك ان كفاية اداء هذه المؤسسات سيختلف تماما في حالة اقرار موازناتها وتخصيصاتها المالية بصورة صحيحة ودقيقة عن موازنة تقليدية توضع تخصيصاتها بصورة يمكن القول “انها موازنة عشوائية او جزافية” . كيف تحقق المعايير الكلفوية في القطاعات الخدمية الرقابة على تنفيذ الموازنة؟ ان اتباع المعايير الكلفوية في تخطيط موازنة الدولة يضمن تحقق دقة في التخطيط اولاً ويضمن تخصيص مناسب وصحيح لموازنات مؤسسات القطاعات الخدمية، ثانياً واخيراً ستكون عاملاً هاماً في الرقابة عليها وفي الصورة الاتية: اولاً: حيث ان التخصيصات المالية للمؤسسات الخدمية قد اعتمدت بكل دقة وكفاية فينبغي عليها استنفادها بشكل متكامل وفي حالة حصول انحراف سلبي او بمعنى اخر ان ظهرت نسب المنفذ اقل من المخطط، فيجري التحقق من الاسباب التي ادت الى ذلك فان تبين ان ذلك ناجم عن عدم دقة التخطيط او تدني مستوى المنفذ فان ذلك يدل على ضعف كفاية المسؤولين الاداريين في تلك الوحدات وينبغي محاسبتهم واتخاذ الاجراءات المناسبة بحقهم. ثانياً: حيث ان الفصل الاول ، او التخصيصات اللازمة لتأمين الموارد البشرية قد وضعت بشكل دقيق، فان على تلك المؤسسات الاستفادة منها وعدم ابقاء أي شاغر منها، يعني ذلك ان تسد جميع المدارس حاجتها في الملاكات التدريسية والادارية، وان تسد جميع المستشفيات حاجتها من الاطباء والفنيين والاداريين وان تسد جميع الجامعات حاجتها من التدريسيين والفنيين حسب النسب العلمية وهكذا بالنسبة لجميع المؤسسات الخدمية الاخرى، وهذا الامر سيضع حداً بالنسبة لاحتياجات الوحدات الخدمية الاخرى، وفي حالة عدم استفادة تلك المؤسسات من الدرجات الوظيفية والتخصيصات المالية لسد احتياجاتها الماسة التي هي حددتها يعني ذلك عدم كفاية مسؤوليها في استغلال تلك التخصيصات وكذلك استكمال توفير الافراد المتخصصين اللازم لادائها بأفضل صورة وحسبما تقتضيه اهدافها. اخيراً: ان تخصيصات الفصول الاخرى قد احتسبت على وفق معايير ونسب كلفوية ومئوية محددة، فيجب التحقق وبصورة دورية او فصلية او سنوية في استكمال ذلك واستغلال التخصيصات المالية بكل دقة واذا اخذنا بنظر الاعتبار مثالنا السابق والذي تم بموجبه احتساب كلفة الاطعام ففي حالة وجود الجنود بصورة كاملة فستكون كلفة الاطعام مطابقة للمبلغ المخصص تماماً، اما اذا تمتع الجنود بحصولهم على اجازات او سجل عليهم غيابات فان الامر يقتضي تنزيلها من مجمل السحب اليومي للارزاق أي ان يكون الاطعام بقدر الحضور وليس بقدر الملاك المحدد، فيحقق ذلك وفراً واضحاً في الاموال ويسهل الرقابة عليها ، اذ لا يجوز استغلال هذه الفروقات وسحب اكثر مما يجب فعلاً للاطعام فينتج عن ذلك اما هدرا او تبذيراً في المواد المسحوبة او سرقتها او توطؤا مع المجهزين لها للحصول على فروقات مالية، وهكذا بالنسبة لبقية المواد.
أ. د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
الكفاءات المصدرة والكفاءات المستوردة (وجهة نظر خاصة)
أعود مرة أخرى في مقالتي هذه للحديث عن الكفاءات المصدرة والكفاءات المستوردة، والذي دفعني إلى كتابتها ما شاهدته في فضائيات التلفاز عراقية أو عربية ندوات وحلقات خاصة يدار الحديث فيها عن الكفاءات العراقية المهاجرة وكارثة هجرتها والخراب الذي اصاب العراق بسببها وكأن العراق هو البلد الوحيد الذي يهاجر من كفائاته ، أما الجزء الثاني من هذه الخاطرة فهو يتعلق بالكفاءات المستوردة الذي لا كلام ولا حديث عنها وسبب ذلك كما أرى واعتقد – مع احترامي للمناظرين من تدريسيين أو خبراء أومثقفين- أنهم يتداولون هذا الامر بصورة غير موضوعية، كما أن أغلبهم لم يكونوا قد تعمقوا في دراسة هذه المشكلة وأسبابها وأبعادها ولم يمارسوا أعمالاً علمية وإدارية متخصصة في الجامعات أو في دوائر التعليم العالي أو غيرها لانها ليست فقط هي المعنية بذلك ليقف بصورة دقيقة على واقع هجرة الكفاءات العراقية، هذا من جانب أما الجانب الآخر فإن أياً منهم لم يتطرق الى أهمية وضرورة استيراد الكفاءات العربية والاجنبية – او استخدام- المتميزة للتعويض بها عن الكفاءات المهاجرة أو للإفادة منها في توظيف كفاءتها وخبراتها مؤسساتنا الجامعية والانتاجية او غيرهما من مؤسسات الدولة وحتى القطاع الخاص الذي هو في حاجة ماسة اليها. نعود الى عنوان الخاطرة والحديث عن الكفاءات المهاجرة، أولاً: اني أرى أن من يرغب في العمل في بلاد اخرى أو الهجرة إليها وسواء تم ذلك بشروط الاعارة أم الاجازة من دون راتب أم الاستقالة أم الاحالة إلى التقاعد ومن ثم المغادرة او العمل والهجرة من دون إجازة او استقالة وعدّته مؤسسته العامل فيها تاركاً العمل فهو لم يرتكب جنحة او جناية ولا خيانة بل هو يمارس اقل حقوقه التي ضمنتها له الشرائع السماوية ومبادئ حقوق الانسان والدستور وقانونا الخدمة المدنية منها و الجامعية او غيرها فهو في كل الاحوال يكون قد اوفى بالتزاماته التعاقدية والمادية وغيرها من الالتزامات وتوكل على الله طلباً لرزق افضل أو لضمان عيشة آمنة أو لمكان آمن فما هي المشكلة في الامر ما دامت هناك فرصة ومورداً أفضل في بلد آخر لا يستطيع الحصول عليها في بلده وديننا الحنيف يأمرنا بطلب الرزق الافضل ونسعى في مناكبها، وقد التقيت في سنة 1980 بأحد الاساتذة الاميركان وكان أستاذاً زائراً في جامعة ووج في مدينة ووج في بولونيا وقد سأله أحد الاساتذة البولون في القسم الذي اكملت اطروحتي فيه لماذا حصلت يا أستاذ على الجنسيه الاسترالية والكندية والالمانية والبريطانية والسويدية فضلاً عن جنسيتك الاصلية الامريكية؟ أجابه قائلاً: أينما يكون هناك خبز يكون هناك وطن ، فتذكرت كلمة الامام علي ( عليه السلام) : وطن بلا مال غربة والمال في الغربة وطن فإذنً جميع الاديان السماوية والاعراف الاجتماعية والقوانين الاساسية الوضعية تكفل هذا الحق ولا جدال في ذلك. ما ذكرته سابقاً يمثل وجهاً من وجوه المشكلة، ويقتضي الأمر البحث عن الوجه الآخر للمشكلة فإذا عرفنا أن الهجرة الى بلد آخر هي حق من حقوق الانسان والمواطنة طلباً للرزق والآمن خاصة ونحن كعرب ومسلمين لدينا أفضل مثل عن أسباب الهجرة وهي هجرة نبينا محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وما حققت من موطن آمن للمسلمين حققت ثبات الدين الاسلامي وانتشاره، فنعود ونقول: إننا ينبغي أن ننظر الى الامور نظرة موضوعية ومنطقية، فلابد من أن نشخّص مشاكل الهجرة وأسبابها وكيفية حلها، فتوطيد الأمن والحماية لجميع أبناء الشعب ومنهم كفاءاته هو جزء من الحل وتوافر الرزق الحلال والراتب المناسب للعاملين في الدولة هو حل آخر للمشكلة ومن ثم أن تهيأت سبل ووسائل العمل من أجهزة ودورات وكتب ونشريات ووسائل الاتصال بأرخص الاسعار هو جزء من المشكلة، والسماح لكل مواطن وفي مقدمتهم ذوو الكفاءات في السفر والعودة او الحل والترحال من دون طوابير الانتظار في دوائر السفر او نقاط الحدود والمطارات هو حل آخر للمشكلة كما أن وجود مؤسسات حكومية ومختلطة وخاصة تعمل على توفير العمل والخدمات لكل ابناء الشعب وفي مقدمتهم الكفاءات وليس الانتظار لعشرات السنين – كمواعيد عرقوب- هو حل آخر للمشكلة، وهناك الكثير الكثير من هذه الأمثلة التي لا أريد أن أطيل في ذكرها ولكن بقي أن أذكر شيئين مهمين وهما متى يشعر هذا الكفؤ بأن البلد سيديره أكفاء ورجال مؤهلون لمواقع او مناصب مناسبة لشهاداتهم وخبراتهم وان تحقق فهذا حل آخر مهم للمشكلة، أما الأخر والأهم منها فمتى ما يشعر الكفوء بأنه سيعيش في بلد شعبه متعلم ومثقف متآخ ومتحاب بين جميع أقوامه وطوائفه وعشائره، وعوائله متحدة في السراء والضراء يحترم صغيرهم كبيرهم وكبيرهم صغيرهم، تسودهم المحبة والسلام فهذا حل مهم للمشكلة، هذا ما أعتقده من أسباب ومعالجات هجرة الكفاءات التي هي ستبقى قائمة أبداً؛ كونها من سنن الحياة المهمة منذ أقدم الأزمان، والانسان حر فيما يختار وعليه الإيفاء بالإلتزامات عند اتخاذه اي قرار، ونحن لا يمكننا الحد من هذه الظاهرة التي إن كانت لها سلبيات فهي في الوقت نفسه لها الكثير من الايجابيات. إن الافادة التامة من الكفاءات وابقائها في البلاد لا تحل في إقامة ندوة او في مقال يقال وإنما لا بد من القيام بالكثير من الاجراءات والقرارات تعالج وفقا لقوانين وأنظمة وتعليمات مثبتة وصحيحة، إذ نحتاج الى علم وثقافة لتؤثر في أجهزة الدولة وفي مسؤوليها من الاعلى إلى الادنى في التعامل مع هذه الكفاءات بأي مستوى كان، وتوظيف جميع الطاقات المتميزة والكفوءة والمنتجة لخدمة البلاد ، إن الكثير من الكفاءات العالية الاختصاص هاجرت ليس بسبب الحاجة إلى المال بل بسبب موقف خاطئ أو إجراء غير لائق من هذا المسؤول أو ذاك، فبعضهم قرر الهجرة بعدما لحقته إهانة أو إذلال في هذا المعسكر أو ذاك، متجرد من الاحترام او التقدير لعلم أو كرامة انسان، وبعضهم الآخر هاجر لما لاقاه من استخفاف بعلمه وكفاءته من مسؤول حصل على منصبه بالتملق ومسح الاكتاف، وغيرها الكثير من الأسباب المعنوية والعلمية وآخرها الحاجة إلى المال، الذي هو آخرها وليس أولها وهذا ما أعتقده وأراه . أعود الى مشكلة أخرى وهي مشكلة الكفاءات المستوردة التي لم تحظ بأي انتباه أو دراسة أو اهتمام سوى ما قدمته جامعة بغداد، مقترح تعليمات خاص بدعوة الاساتذة الزائرين والذي أيدته بقوة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، ولكنها ما زالت تنتظر التشريع إن لم ترفض لهذا السبب أو ذاك . إننا لو عدنا الى مشكلة الكفاءات المهاجرة وتمعنا قليلاً في كيفية حصولها والجهات المستقبلة والجاذبة والمشجعة لها والمستعدة للبذل عليها؛ لانها ثمار ناضجة لا يحصل عليها الا بعد عشرات السنين من التربية والتعليم والخبرة والمران لوجدنا أن الدول المتقدمة والجامعات الرصينة والمؤسسات المتطورة والشركات العملاقة في اميركا وأوربا هي في مقدمة الدول المستقبلة لهم؛ لعلمهم بجدوى وفائدة هذه الكفاءات واقتصادية استخدامها مهما بذلت عليها من أموال ، وهذا الأمر غير خاف على كثير من المسؤولين الاكفاء في العراق ولطالما استورد العراق أساتذة مصريين ولبنانيين وسوريين وأجانب آخرين وأطباء وفنيين وان كان الاساتذة في الكليات أكثرهم كان في حقبة الاربعينات والخمسينيات ومن ثم أعداد كبيرة من الاساتذة العرب والمصريين منهم خصوصاً والاجانب في الجامعات في مرحلة الستينيات ومن ثم الطلب الكبير لالاف الاساتذة والمهندسين والخبراء وكلهم أصحاب كفاءات مستوردة غير عراقية فرضت الحاجة واعمال التنمية الاقتصادية وغيرها من المتغيرات التي حصلت بسبب توافر الاموال في السبعينيات فتح الباب على مصراعيه لاستيراد الكفاءات والاغداق عليهم بالرواتب المتميزة وغيرها من الامتيازات فهل هذه الخطوة صحيحة في أننا نبقى نستورد الكفاءات او نشجع هجرة الكفاءات من مختلف الاقطار إلينا ونقر بأن ذلك حلالاً لكن هجرة كفاءاتنا حرام، أرى أن واقع الحال يفرض علينا أن نقر بأن الانسان حر ومن حقه أن يعمل في أي بلد كان شرط أن يكون قد أوفى بالالتزامات التي تفرضها عليه تعاقداته وواجباته تجاه الوطن الذي أغدق على تربيته وتعليمه بالاموال . إن مشكلة الكفاءات المهاجرة يمكن أن تخفف منها الكفاءات المستوردة، واننا في كل الاحوال خاصة مؤسساتنا الجامعية وهيئات التعليم والبحوث العليا والمؤسسات والشركات الصناعية إن استقرت أوضاعها فهي ستكون بأمس الحاجة الى استيراد أو استقدام أو التعاقد أو تشغيل أو استضافة الاساتذة والخبراء غير العراقيين من العرب والاجانب ؛ لتحقيق هدفين مهمين اساسين في الوقت نفسه اولهما لحل مشكلة هجرة الكفاءات و التعويض عنها، والثاني منهما هو ضرورة الافادة من ذوي الكفاءات المتميزة والعميقة في التخصص للتدريسيين في الجامعات والهيئات ومن ثم الافادة منها في مختلف التخصصات والخبرات لرفع مستوى الاداء ولزيادة اطلاع وخبرة خبراء وكفاءات العراق.
أ. د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
الفساد الإداري والغش الامتحاني
في خاطرتي هذه سأتناول ظاهرتين كلتاهما شاعت في مجتمعنا في السنوات الاخيرة وما زالت كلتاهما في قطاعين او مفصلين مهمين في المجتمع العراقي الاول هو الجهاز الاداري والاخر هو قطاع التربية والتعليم العالي وأصبح الحديث عن هاتين الظاهرتين محط حديث المجتمع العراقي ومن حسن الحظ أن الغالبية العظمى منهم أعلن رفضه لكلتا الظاهرتين المقرفتين اللتين شاعتا ولا يوجد ما يدلل على قرب انتهائهما في الامد البعيد وان تعذر علينا ذلك في الامد القصير وإذا رجعنا إلى ظاهرة الفساد الإداري فان الفساد المالي الذي يلهث بأتجاهه الكثيرون كالكلاب ( لا بل كالذئاب الجائعة ) على الرغم من ان في جعبة معظمهم الملايين او المليارات هؤلاء المفسدون الماليون جميعهم بطبيعة الحال يحللون لأنفسهم نهب أموال الدولة بأية صورة من الصور ضاربين عرضاً المصلحة العامة التي أئتمنتهم الدول عليها لا بل هم خائنون للأمانة التي حرمت الاديان السماوية جميعها خيانتها ووصل بهم الحال بعدم المبالاة بالضرر الذي يصيب المال العام حتى ولو كان الاف المرات مما يقبضون او يستفيدون فإذا كان ما ذكرت وجه أو نوع واحد من أنواع الفساد المالي الذي شاع في أجهزة الدولة جميعها كما يبدو وأصبح حجمه بالمليارات بعد أن كان لا يسمح بهدر حتى الدينار ( أن لم يكن حتى الفلس الواحد ) فأن أوجهه الأخرى هي التواطئات والنسب في مجمل مبالغ الصفقات ( شيلني وأشيلك ) والرشاوى والهدايا ( الصيغة المهذبة للرشاوى ) والاختلاسات وغيرها، أما الصور الاخرى من صور الفساد الاداري التي صيغتها الظاهرية أدارية غير مالية والتي حقيقتها أو ما ينجم عنها منافع مادية تخريباً أقتصادياً خطيراً ضمنها المحسوبية والمنسوبية و التوسطات من دون وجه حق وتعيين او تكليف اناس غير مناسبين بوظائف او مناصب غير مناسبة او التكاسل او الاهمال وعدم الاهتمام المجاملات ( المنافقات ) على حساب المصلحة العامة وكذلك استغلال موجودات وأمكانية الدولة العامة للمصلحة الخاصة وغيرها الكثير الكثير من هذه الصور المخربة للجهاز الاداري للدولة والتي احالته كما توقعنا منذ بداية الثمانينات والتي يتذكرها طلبتنا حتى الان الى هيكل منخور تقلعه أي ريح تهب عليه حتى لو كانت ضعيفة القوة . أعود الى استكمال الجانب الاخر من خاطرتي هذه وأتساءل من هم هؤلاء المفسدون مالياً ام أدارياً وما هو موقعهم وكيف وصلوا اليها انهم جميعاً حملة شهادات جامعية ( او قد تكون أعدادية على الاقل ) تدرجوا في وظائفهم الادارية حتى وصلوا الى مواقع عليا كانت او اقل يستطيعون فيها ممارسة فسادهم المالي او الاداري بمختلف انواعه ولكني أعتقد ( ان لم اكن واثقاً تماماً ) ان الحصول على الشهادة للزهو ببريقها والتشدق بقيمتها وهي في الحقيقة خاوية على عروشها لا تساوي قيمة الورق الذي كتبت عليه، بل كانت جوازاً له للحصول على وظيفة ومن ثم موقع فمنصب يستطيع من خلاله النفوذ باي مستوى يتيح له ذلك الموقع او المنصب ليأخذ قسطه من الرشاوى او الاختلاس او التواطئ او الابتزاز او التوسط للحصول على مال او جاه والاهمال والهدر والتبذير والاستغلال وغيرها الكثير من انواع الفساد المالي و الاداري ولكن رب سائل يسألني كيف تستطيع ان تربط بين هذا وذاك فأجيب وكما ذكرت أبحث عن تاريخ هذا المفسد في جهاز الدولة تجده غشاشاً في مدرسته او جامعته كما ان ممارستي للعمل المهني التدقيقي والرقابي والتدريس الجامعي اوصلني الى قناعة تامة بترابط هاتين الحالتين وتزامنهما وأني إذ أُكد على ذلك واستطيع أثباته من خلال لفت أنظار الجميع بأننا في السنين الاخيرة شهدنا تفشي ظاهرة الفساد الاداري والمالي المقرفة في جهاز الدولة وهي ليست تهمة لذلك الجهاز وليس لجميع العاملين فيه بل يكفي ان كان هناك واحد يمارسه في أي مؤسسة سيسيء لسمعة تلك المؤسسة كما ان تفشي ظاهرة الغش الامتحاني او حتى الرغبة الجامحة للغش الامتحاني لدى طلبة الاعداديات او الجامعات هي من المظاهر الخطيرة جداً على النظام التربوي والتعليمي في البلد ومن ثم مستقبلاً على جهازه الاداري بكامله فأين سيذهب هؤلاء الغشاشون ؟ اليس جزء كبير منهم سيبحث عن الوظائف في دواءر الدولة ومؤسساتها ومن ثم يبدأ التبجج بكونه حاملاً لهذه الشهادة وتلك الدرجات او المستويات ثم يبدأ بالاستفادة بالانتفاع والابتزاز والارتشاء ومن ثم ممارسة الفساد في هذه المؤسسة او تلك الدائرة التي سيعمل بها انهما حتماً ظاهرتان متلازمتان واذا كنا نرفع اصوانتا عالياً بضرورة معالجة ظاهرة الفساد فاني أرفع صوتي عالياً بضرورة الوقاية من الفساد واهم وافضل وسيلة للوقاية من الفساد الاداري هي القضاء على الغش الامتحاني .
أ. د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
الـفــرس والـخـنفـســاء
عندما كانت مصلحة نقل الركاب في بغداد متميزة في خدماتها بنقل الركاب في بغداد ما بين مناطقها ومحلاتها المختلفة بفضل كفاءة مدرائها طيلة مدة الخمسينيات والستينيات ,فلم تكن هناك ضرورة لأقتناء سيارة صغيرة للتنقلات, إذ كانت مصلحة نقل الركاب الحمراء اللون ذات الطابقين خصوصاً بعد أن كانت درجتين وأصبحت درجة واحدة وبسعر زهيد خمسة عشر فلساً تقل المواطنين من منطقة الى اخرى التي قد تكلف أجرة النقل بينهما في الوقت الحاضر أكثر من الفي دينار او ما يعادل دولارين تقريباً ان كانت نفس باصات هذه المصلحة ان بقيت لديها باصات أما أجرة باصات النقل الخاص فأن أسعارها ملتهبة كالتهاب اسعار النفط والبانزين والغاز والكاز. وقد وددت أن أكتب في مقالتي هذه صورة حية خزنتها ذاكرتي ليوم من الايام الذي عشته وأيقنته عيناي ,ففي احد ايام سنة من سنوات الستينات وعندما كنت راكباً في باص في الطابق الثاني في عودتي الى الدار كان هناك عدد من الركاب رجالاً ونساء ويبدو أنهم مثلي يفضلون الركوب في الطابق الثاني دائماً لأن الطابق الاول عادة مايكون مزدحم، صعدت إحدى النسوة وحال ما جلست في الامام باشرت بالكلام مدحاً وإشادة برئيس إحدى الجمهوريات وليس برئيس جمهورية العراق؛ ولاستمرار هذه المرأة بالكلام والاشادة بخصال ذلك الرئيس القائد الهمام، الذي ـ بحسب رأيها ـ انه تفوق على الأولين والآخرين من الرؤساء في الشجاعة والاقدام وتحقيق الانتصارات بالمدافع والدبابات وحتى بالسيوف المصنوعة من الحديد او الاخشاب ، فضاقت ذرعاً إمراة إخرى منها لكثرة مديحها بذلك الرئيس المقدام ولربما من الثرثرة وكثرة الكلام ,قائلة لها :- ولماذا هذا المديح برئيس هو ليس رئيس العراق ؟ ولِمَ لا يكون المديح أولاً برئيس العراق وهو أيضاً من الابطال والشجعان والذي له صولات وجولات والكثير من الخصال الحميدة فما كان من هذه المرأة الثرثار، إلا وان نهرت الثانية التي طلبت توجيه المدح لرئيس العراق وليس للاجانب والغرباء :- اسكتي، فأنت كالخنفساء التي ترفع رجلها عندما يريدون تنعيل الفرس، اسكتي يا خنفساء. وبين مد وجزر هاتين المرأتين ضحك الجالسون من الركاب وقد أعجبني من هذا الحوار المثل الذي قالته المرأة ( أرادوا تنعيل الفرس فرفعت الخنفساء رجلها ) . إذ لم اسمع سابقاً بهذا المثل البغدادي كما يبدو ولم أسمعه من أحد لاحقاً ،على الرغم من مرور اكثر من أربعين عاماً على سماعي هذا المثل البليغ يعود لذاكرتي أحياناً ولاسيما في هذه السنين الطوال ويعود لذاكرتي كثيراً في هذه الاحيان لكثرة الخنافس التي ترفع أرجلها كلما أرادوا تنعيل الفرس وكذلك الحصان.
أ. د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
العلم والجهل
إن من نعمة الله على عباده من البشر أن خلق فيهم الدماغ المتميز عن جميع ما خلق، وهذه النعمة جعلت من العقل الذي يحركه ذلك الدماغ الوسيلة لتقدم وتطور ونمو البشرية منذ الخليقة وحتى الان، حيث كان للتفكير المستمر لبني البشر أن تتراكم المعرفة اللازمة لخلق كل ما وصل إليه الانسان حتى عصرنا الحاضر ولا شك في أن الناس حتى وقتنا الحاضر ينقسمون إلى ثلاثة اقسام، فمنهم من يحب التعلم والعلم فينتفع بعلمه وينفع، ومنهم من يتعلم ولكنه يبقى جاهلاً لكثير من الامور ولا ينتفع، ومنهم من يبقى جاهلاً لا يتعلم ولا يعلم، وأنا هنا استشهد ببيتي شعر للإمام الشافعي :
تعلم ما استطعت تكن اميراً ولا تك جاهلاً تبقى اسيـراً تعلم كل يوم حرف علــــــم ترَ الجهال كلــــــهم حميــراً
فما أروع ما ذكره الامام من وصف لذوي الجهل في كونهم لا يعدوا ان يكونوا حميراً، وللحمار في وجهة نظري حسنتان: أولاهما أنه ومنذ قيام الخليقة كان الحمار رفيق الانسان في حياته ولولاه ما استطاع ذلك الانسان الذي وصل الى ما وصل اليه من تقدم ورخاء؛ في كونه خادماً له في حله وترحاله، حاملاً متاعه خف أم ثقل ، ولهذه الخدمات العظيمة التي قدمها الحمار بدءنا نقرأ الكثير من المقالات التي تشيد بفضله على البشرية جمعاء وأخذت الدول المتقدمة تقيم المعارض ومسابقات الجمال للحمير والجحوش ولا اخفي عليكم أني شاهدت مرة في التلفاز إحدى هذه المسابقات وكان الحمار الفائز فيها جميلاً جداً. أما الميزة (أو الصفة) الاخرى لهذا الحمار فهي غباؤه الذي هو مضرب الامثال، وصوته الذي هو أنكر الاصوات كما جاء في القرآن الكريم ومن غباء هذا الحيوان أنه لا يسير الا بالسوط فإن أشرت إليه إلى الاتجاه اليمين سار إلى اتجاه اليسار ، وفي الستينات عندما كنت اسافر اسبوعياً الى مدينة الحلة ، كان السواق يخفضون السرعة لدرجة تسير السيارة كالسلحفاة وإلى مسافة طويلة، ولعدم وجود ما يبرر ذلك ضقت ذرعاً بهذا الحال سألت أحد السواق يوماً لماذا تخفض السرعة هكذا ولا يوجد شيء على الطريق يبرر ذلك؟ ضحك وقال: ألا تشاهد الحمير على مسافة من يدك اليمين؟ ضحكت وقلت له: إنها بعيدة عّنا، أجاب : إن المشكلة هنا، فهي وإن كانت بعيدة إلاّ إنها تسببت الكوارث لأنها عندما تشاهد سيارة مسرعة تخاف منها فتركض باتجاهها فتحصل الكارثة لانها تصطدم بالسيارة وبالعكس عندما ترى السيارة بطيئة تبقى بمكانها فتسلم منها وتسرع بعد أن نبتعد عنها. في السنتين الاخيرة تغير رأي بغباوة الحمار إذ لم يعد الناس يشيرون الى غباوته إلا قليلاً جداً كما لاحظته أنه لم يعد يسير في الاتجاه المخالف المراد منه بل يسير في الطريق الصحيح المطلوب، فضلاً عن ذلك ما يزال يقدم أفضل الخدمات لبني البشر واعتقد أنه في عراقنا ذي الثروة النفطية الهائلة، أفاد منه كثيراً الفلاحون والقرويون لنقل منتجاتهم أذ لا بانزين ولا كاز، كما ولعدم الاشارة إلى غبائه سبب آخر ( كما اعتقد) وهو زيادة عدد الجهلة والأميين في بلادنا بسبب ما عصف بالبلد من حروب وحصار اضحى فيه الكثير من الناس يستهزئون بحاملي الشهادات ورواتبهم الشحيحة ويفضلون أصحاب المهن والحرف التي تدر عليهم الربح الغزير، ولصعوبة الحياة وعيشها بدأ الكثير من الناس يدفعوا بأبنائهم إلى العمل وليس إلى الدراسة فزادت الامية وزاد الجهل ولا يختلف اثنان بأن في أن الانسان الجاهل لا يختلف كثيراً عن الحمار كما ذكر الامام الشافعي (رحمه الله). اعود مرة اخرى الى نوع آخر من الجهل وهو أخطر بكثير من جهل الحمير الذي أشار اليه الامام الشافعي واعتقد انه لم يكن شائعاً في ذلك الزمن، ألا وهو جهل أشباه المتعلمين الذين يدعون العلم والمعرفة وأنت إن حاورتهم أو نظرت إلى أعمالهم تجد العجيب الغريب فلا علم ولا ثقافة أو منطق ولا موضوعية بل غالباً ما تكون العكس ولطالما تجدهم منافقين بحجة أنهم مجاملون أو أنهم مختلسون وسراق ويدعون النزاهة والمثالية والكمال ويرتكبون في الوقت نفسه أشنع الاعمال، وإن عرفوا شيئاً فغالباً ما يحرفوه لمصلحتهم، لا خير فيهم ولكن عجاجهم ودخانهم يعمي العيون ، لا فائدة ولا خير يرتجى منهم ولكنهم في النطاح بارعين. وهم لطالما يفعلون الكثير من الامور الشبيهة بما ذكرت ولا أريد أن أطيل وهم غالباً مدعون نزاهة وكفاءة ولكنهم غالباً متسلتون طلاب ولاية لا يفهمون ولا يفقهون شيئاً هم أيضاً من الحمير الذي ذكرهم الامام الشافعي. أعود إلى الفئة الاولى التي تحدث عنهم الامام الشافعي وهم المتعلمون الذين عرفوا قيمة العلم وتعلموه حرفاً حرفاً فهم حقيقة أصحاب علم وثقافة وأخلاق ترى كلامهم أثمن من الذهب والدرر وعلمهم علم ثقافة وأدب، دائماً الخير والبركة والحب في أعمالهم وتصرفاتهم وعلاقاتهم، يحترمون أنفسهم قبل احترامهم لغيرهم ، أكفاء في ادائهم وأعمالهم تسعى الوظائف أو المناصب إليهم ولايسعوا إليها لأنهم ليسوا طلاب ولاية ولا مغانم أو منافع ذاتية، ان المجتمعات الراقية مجتمعاتها ومثقفيها بهذا النوع من العلم والثقافة والاخلاق وليس كما هو الحال في مجتمعنا في هذه السنين فإن تفشت الامية وعم الجهل فتلك مصيبة كبرى وإن ساد وانتشر جهل أنصاف المتعلمين والمثقفين فالمصيبة أعظم ، وإن كنا في أمس الحاجة إلى برنامج طموح للقضاء على الامية فإننا نحتاج إلى برنامج أشمل لمحو جهل أنصاف المتعلمين ليسود في مجتمعنا المتعلمون والمثقفون الذين ذكرتهم، وصدق مَنْ قال : ” إن العلم يرفع أمةً لأجل مقام والجهل يحطها إلى أسفله”.
أ. د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
الدراسة المسائية بين المد والجزر
عند انشاء جامعة بغداد سنة 1958 وصدور قانونها بعد ثورة 1958 كانت هذه الجامعة عبارة عن تجميع لعدة كليات ومعاهد عالية تابعة لوزارة المعارف وعند قيام الثورة لم تكن فيها اية دراسة مسائية، ولكن هذه الثورة وقيادتها وضعت نصب عينها انصاف المضطهدين في العهد السابق ومنح الفرص امامهم لتحقيق امانيهم في الحصول على الشهادة الجامعية فضلاً عن اتاحة الفرصة للطلبة الفقراء في العمل نهاراً والدراسة مساءاً وفسح المجال لموظفي دوائر الدولة الذين لم تسمح لهم الفرصة في دخول الكليات والمعاهد الجامعية والانضمام الى هذه الدراسة للحصول على الشهادات الجامعية التي ستزيد من معلوماتهم التخصصية وتحسين موقفهم الوظيفي وتفتح امامهم افاقاً رحبة في تحسين الظروف المالية في ضوء احكام قانون الخدمة المدنية والملاك، كل ذلك حصل خلال 1958 وحتى سنة 1962 وتخرج في الدراسة المسائية في هذه الجامعة بعد انخراط الالاف من الطلبة والموظفين والمسؤولين فيها اعداد غفيرة وخاصة في كلية الادارة والاقتصاد (والتي كانت تسمى كلية التجارة والاقتصاد) وكلية القانون (التي كانت تسمى كلية الحقوق) ومثلت هاتان الكليتان رافداً لدوائر الدولة القديمة منها والجديدة بالافراد المؤهلين والمتخصصين اما الطلبة المتفوقون منها والذين حصلوا على بعثة او زمالة او سافر احدهم على نفقته الخاصة للدراسة في الخارج فقد حصلوا على ارقى الشهادات الجامعية من ارقى جامعات العالم المختلفة وعادوا للاشغال وظائف جامعية او ادارية او سياسية هامة ومتخصصة جداً واثبتوا كفاءة عالية جداً، اما من بقي يعمل في جامعات او مؤسسات الدولة التي اوفدوا اليها فقد اثبتوا كفاءة علمية وعملية فائقة التفوق والتميز تشهد لها جميع المحافل العلمية العالمية وارقاها هذا ما كانت عليه الدراسة المسائية وهذه مدخلاتها ومخرجاتها خلال النصف الاول من عقد الستينات ولعل من المهم ان الدراسة المسائية كانت مجانا وكان الطالب لا يدفع خلال سنوات سوى دينار واحد يؤخذ منه لغرض التسجيل واخر يؤخذ لغرض الانشطة الطلابية والرياضية. وفي السنوات التي تلت انقلاب 8 شباط 1963 استمرت الدراسة المسائية بصورة رتيبة بعد ان وجدت او جمعت في كلية واحدة سميت الكلية الجامعة وباجور سنوية تقدر بعشرين ديناراً واستفادت تلك الكلية من مباني جامعة بغداد ولم تحملها الجامعة شيئاً جراء استخدام تلك الابنية والموجودات سوى نصف اجور الماء والكهرباء وحصلت هذه الكلية على مساعدات من جامعة بغداد ومؤسسة كولنكيان التي ساعدت على انشاء ابنيتها الضخمة التي سميت الجامعة المستنصرية لاحقاً، وبدلاً من استمرار هذه الجامعة حولت الى جامعة حكومية تنفق عليها الدولة من موازنتها واوقفت الدراسة المسائية فيها بعد ان توافرت الاموال للدولة بعد تأميم شركات النفط، وكان قرار ايقاف الدراسة المسائية، ضربة قاصمة للمسيرة العلمية والجامعية في العراق، على الرغم من تبرير ذلك بادعاء ضعف الدراسة المسائية ولا حاجة للجامعات بتقاضي الاجور الدراسية وخزينة الدولة فائضة بالاموال بفضل تأميم النفط وزيادة اسعاره فضلاً عن تبني الدولة في دستورها مبدأ مجانية التعليم. واستمر ايقاف الدراسة المسائية حتى حلول سنوات الحصار وانحسار موارد موازنة الدولة ونزرت تخصيصاتها على الجامعات العراقية ودفعها لتدير امورها بشتى الصور فكان اطلاق الدراسة المسائية الهدف منه توفير موارد مالية لهذه الجامعات وتدريسييها وموظفيها لاستمرار عملها بالحد الادنى على الاقل. وعند المقارنة بين الدراستين الصباحية والمسائية لم اجد فرقاً لا من حيث المادة العلمية او مستوى الطلبة ولعلي لا ابالغ اذا قلت ان مستوى الطلبة في الدراسة المسائية يفوق مستوى الطلبة في الدراسة الصباحية من عدة جوانب منها الحظور وسرعة الاستعياب وكتابة المحاضرات فضلاً عن ممارستهم العلمية لتخصصهم. نعود بالامر الى ما بعد انهيار النظام وخلال السنتين الدراستين الماضيتين والسنة الحالية ونتساءل ماهي مبررات الدعوة لالغاء الدراسة المسائية وما هي مبررات الابقاء عليها؟ فأجيب على كلا السؤالين بالاتي:- اولاً: ما هي مبررات المطالبين بالغاء الدراسة المسائية: – ان اكثر ما يسوقه الغاء الدراسة المسائية هو ضعف مستوى الدارسين فيها ونحن لا نوافقهم الرأي وذلك لان فتح الدراسة هي مسألة معقود امرها للجامعات التي ترتأي ضرورتها وانها تستطيع تأمينها بمستوى علمي موافق تماما للدراسة الصباحية كما يثبت الواقع العلمي لسنوات عديدة ماضية كما ذكرت جدارة الدراسة المسائية وجدواها ولا حاجة للتكرار وفي السنوات التي اعقبت انهيار النظام وما رافق ذلك من مظاهر امنية تعرقل لدراسة المسائية فقد قامت اغلب الجامعات والكليات بتقديم ساعات الدراسة المسائية واصبحت في ساعات الظهر والعصر مما خفف كثيراً من المخاوف بشأن الدراسة المسائية. ثانياً: ما هي مبررات المطالبين ببقاء الدراسة المسائية؟ – لا شك ان حجم المطالبين ببقاء الدراسة المسائية مبررات تذكرها بصورة مركزة وكما يلي: اولاً: ان الدراسة المسائية اثبتت كفاءتها وعلو مستواها بالواقع العلمي وليس بالادعاء. ثانياً: ان في الدراسة المسائية عاملاً كبيراً لتوفير الدراسة للكثير ممن لم يحصلوا على التعليم الجامعي وفي ذلك تامين لزيادة تعلم وثقافة افراد كثيرين من ابناء المجتمع مما له انعكاسات علمية وتربوية على الموارد البشرية للمجتمع. ثالثاً: ان في الدراسة المسائية عاملاً كبيرا في التخفيف من الضغط على الدراسة الصباحية وساعدت الجامعات في تحقيق النسبة العلمية الهامة في توفير الملاكات العلمية والتي هي عدد الطلبة بـ(عدد التدريسيين). رابعاً: ان في المدارس المسائية عاملاً اجتماعياً واقتصاديا هاما لكثير من اولياء امور الطلبة ومنها الاتي: 1. توفير فرص الدراسة لكثير من الطالبات في منهن وعدم انتقالهن الى مدن اخرى ولاسباب اجتماعية شتى . 2. توفير الكثير من النفقات من سكن وطعام وانتقال لا تستطيع العوائل الفقيرة توفيرها. 3. تمكين الكثير من الطلبة من الحصول على عمل صباحا والدراسة مساء وفي ذلك تقليل من عبء اولياء الامور من الانفاق على اولادهم وتوفير مورد مادي مناسب لابنائهم. خامساً: توفر الدراسة المسائية على الرغم من قلة اجورها وزهدها مصدراً مالياً هاماً للجامعات التي تتبناها فضلاً عن توفير مورد اضافي للتدريسيين والموظفين العاملين فيها وكذلك مورد اضافي لاكمال تجهيزاتها وصيانة موجوداتها. على وفق ما تقدم يبدو السؤال الذي يطرح نفسه هو ماذا يمكن ان نقول في الدراسات المسائية هل هي ضرورة ام غير ضرورة؟ ارى ان الاجابة هو ان الدراسة المسائية ضرورة ماسة لبلدنا ومجتمعنا وما دامت هي قائمة في اميركا وروسيا وانكلترا وفرنسا ومصر وسوريا والاردن فلماذا هي لا تمثل ضرورة في العراق؟! وبقاء مصيرها معلقاً ما بين مد وجزر بين مؤيد ومعارض وبين مطالب بالغائها ومتحمس لبقائها انها في بلدنا وفي ظروفنا الحالية الاقتصادية الاجتماعية والعلمية والتربوية اكثر من ضرورة فلا تبقوها بين مد وجزر ابقوها وكل كلية وجامعة هي ادرى بجدارتها وتحمل مسؤولياتها.
أ. د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
الدراسة المسائية وأجورها بين التخفيض والتصعيد
سبق وأوقف النظام السابق الدراسة المسائية في الجامعات العراقية في السبعينات من القرن الماضي بالرغم مما قدمته تلك الدراسة من موارد بشرية مؤهلة رفدت مؤسسات الدولة والمجتمع العراقي بأفضل المتخصصين الذين لازال قسماً كبيراً منهم يساهمون في جميع أنشطة مؤسسات القطاع العام والمجتمع العراقي فضلاً عن أساتذة وعلماء وخبراء يعملون في العراق وخارجه وحتى في أفضل الجامعات الأوربية والامريكية والمنظمات الدولية والذين اعرفهم شخصياً اصدقائي وزملائي بالعشرات . عاد النظام وفي التسعينيات من القرن الماضي وسمح بالدراسات المسائية وذلك بموجب تعليمات خاصة بذلك وكانت خطوته هذه ليس بدافع الاستفادة من الدراسات المسائية التي أوقفها لأكثر من عشرين سنة وللاستفادة مما تقدمه تلك الدراسات من فوائد عدة للتعليم العالي وللمجتمع العراقي بل كانت وسيلة غير مباشرة لتوفير مصادر مالية لأعضاء هيئة التدريس وبعض الإداريين العاملين في الجامعات والمعاهد الفنية، بعد أن أصبحت موارد العراق غنيمة او في خبر كان . بعد انتهاء تلك الفترة المظلمة من تأريخ العراق وموافقة أبناء الشعب العراقي بأغلبية كبيرة على الدستور وكانت من ضمن أحكامه القيمة ما ورد في المادة (34) الفقرة الثانية والتي نصها الآتي :- (( التعلـيم المجـاني حـق لكـل العراقـيين في مخـتلف مراحـله )) وبموجب ذلك فأننا نرى إن التعليم المسائي في الجامعات العراقية ينبغي أن يكون مجاناً وتخضع إجراءات القبول فيه إلى القبول المركزي لتعزيز مستواه العلمي وجعلها مطابقة تماماً للدراسة الصباحية، هذا وأود أن أذكر أن الدراسة المسائية وأن كانت هي لا تشمل جميع الأقسام والفروع العلمية لصعوبة ذلك في الاختصاصات الطبية وجزء من الهندسية أو غيرها إلا أنها ممكنة وسهلة في أقسام وفروع علمية أخرى فضلاً عن ذلك فهي تحقق الايجابيات الآتية :- 1. فسح المجال لقسم من الطلبة للعمل صباحاً وتوفير مورد معاشي لهم ولعوائهم والدراسة مساءً . 2. فسح المجال للطالبات في الدراسة في نفس المدن التي يسكنوها وليس في مدن بعيدة عن عوائلهم مما يمنعهم من الالتحاق في تلك الجامعات لأسباب اجتماعية ومادية . 3. فسح المجال للكثير ممن فاتتهم فرصة الدراسة وهم من العاملين في مؤسسات الدولة والقطاع الخاص في تطوير كفاءاتهم العلمية مما له انعكاسات إيجابية في رفع أدائهم الوظيفي فيها . 4. التقليل من الحاجة للأقسام الداخلية في حالة قبول طلبة خارج مدنهم ( طلبة كانوا أم طالبات ) . 5. خفض كلفة دراسة الطالب في الجامعات عموماً وذلك لزيادة أعداد الطلبة المقبولين بوجبتين أحدهما صباحية و الأخرى مسائية، فزيادة العدد تؤدي إلى خفض الكلفة دون التأثير على النوعية كما يجب . لجأت بعض الجامعات والكليات والمعاهد في السنة الحالية إلى رفع الأجور المستوفاة من الطلبة ومتجاوزة للأجور المخفضة التي قررتها الوزارة في السنة الماضية وبعضها بأكثر من ذلك معللة ذلك بالحاجة الماسة إلى الأموال لصرف متطلبات سير الدراسة المسائية ولنا في ذلك في ضوء دراسة اجريت عن كلفة الدراسة المسائية في الجامعات والمعاهد التقنية :- أولاً / إن مجمل المبلغ المقبوض من طلبة الدراسات المسائية المخفضة لم تتجاوز ( 13 مليار دينار) ثلاثة عشر مليار دينار عراقي فقط . ثانياً / ظهرت كلفة دراسة الطالب المسائي في السنة الماضية 50% فقط من مبلغ الأجور المخفضة المدفوعة من قبل الطالب وفي اغلب كليات الجامعات والمعاهد التقنية التي فيها دراسات مسائية مما يعني إن الأجور الدراسية المخفضة هي مناسبة ولا ضرورة لزيادتها . لذلك ارى ومن دواعي الرحمة بالطلبة الفقراء وعوائلهم وتحقيقاً لاحكام الدستور الذي حصل على موافقة الشعب العراقي الاتي :- أولاً / إلغاء الأجور الدراسية في الدراسات المسائية وعلى وفق أحكام الدستور ودعم موازنة الجامعات وهيئة التعليم التقني بما يساوي الأجور المخفضة البالغة (13 مليار دينار) وجعل الشروط والضوابط للقبول في الدراسة المسائية موافقة لنفسها في الدراسات الصباحية او ملائمتها بالقدر المناسب . ثانياً / أو إيقاء الأجور مخفضة دون زيادة لعدم وجود ما يبرر ذلك خاصة وأن أغلب الطلبة الذين يرغبون في الدراسة هم من الطلبة الفقراء والذين يفضلون الدراسة في الجامعات الحكومية على الأهلية للارتفاع الكبير في أجور الكليات الأهلية . اني اقترح على اللجان المسؤولة في مجلس النواب وفي الحكومة وفي وزارة التعليم العالي ضرورة تشكيل لجنة لدراسة حقيقية كلفة الدراسة المسائية في الجامعات والكليات التي فيها دراسة مسائية وتخصيص المبالغ اللازمة لها في موازنتها التي تمول الدولة ويمكن ان تكون على شكل برنامج خاص وذلك لتأمين الصرف على هذه الدراسة وانسيابيتها وعدم ازدواجه مع نفقة الدراسة الصباحية كما وادعوا الى ضرورة قيام الجهات اعلاه بمراقبة اجور الدراسة في الكليات الاهلية ايضاً . (( يا ايها المسؤولون في الدولة يا ايها المسؤولون في الجامعات وكلياتها رحمة ً بطلبة الدراسات المسائية الغوا اجورها او ابقوها مخفضة كما كانت في السنتين الاخيرتين الذي حتم الدستور مجانيتها فهل هناك من سميع ومجيب )) .
أ. د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
الخصخصة ما لها وما عليها
أثارت عمليات تحويل المنشأت الاقتصادية التابعة للقطاع العام الى القطاع الخاص ( الخصخصة ) التي جرت في بلدان كثيرة من العالم وبشكل خاص في البلدان الاشتراكية سابقاً وبلدان العالم الثالث والعراق منها ايضاً الكثير من الجدل والحوارات التي تتبلور غالباً في جدواها ومدى ضرورتها لهذه البلدان وبأختصار وأذا ما أردنا التحدث عن هذه العملية الاقتصادية المستمرة منذ عقدين من الزمن إن توجه الكثير من دول العالم نحو أنشاء المنشآت الاقتصادية الحكومية الإنتاجية والخدمية لم يكن الا تطبيقاً للفكر الاقتصادي الاشتراكي الذي أنتهج في الدول الاوربية الاشتراكية أو على وفق الفكر الاقتصادي الكنزي الذي أنتهج في العالم الرأسمالي ( أي أمريكا وأوربا الغربية بشكل خاص ) أما دول العالم الثالث فقد سلكت هذا المنحى او ذاك في خططها الاقتصادية وبصورة أو أخرى كان القطاع العام ونشأته الاقتصادية هو الغالب عليها . بعد النجاح الذي حققته المنشآت الاقتصادية التابعة للقطاع العام في بدايات النمو الاقتصادي والاشتراكي في جميع دول العالم بدأت تظهر عليه مظاهر الترهل والبيروقراطية والرتابة في العمل، الترهل في التوسع في النشاطات والشمول التي في جزء منها غير مجد وليس ذي مردود أما البيروقراطية منها فكانت تتمثل في تضخم إعداد مسؤوليها والعاملين فيها وظهور بطالة مقنعة تأكل من واردات تلك المنشآت جزءاً كبيراً دون جدوى، أما الرقابة فكانت في تأخر أتخاذ القرارات وتحمل أدارييها المسؤوليات ونهج العمل فيها نحو مركزية القرارات وتحمل شبكة ( او شرك ) القوانين والانظمة والتعليمات التي لها أول وليس لها أخر هذا فضلاً عن سلبيات وتغيرات ومشاكل كثيرة أدت الى هبوط كفايتها وأنتاجيتها من ذلك أكتسبت الدعوة الى الخصخصة شرعيتها وجدواها، لأن تحويل تلك المنشآت الفاشلة او التي لا كفاية لها ولا فائدة منها او تلك التي يمكن في حالة تحويلها الى القطاع الخاص ستتحول بفضل ما يتمتع به هذا القطاع من مزايا وصفات تساعده على اتخاذ القرارات بالدقة والسرعة المتميزتين فضلاً عن الحرص على المال الخاص يكون عند الفرد المستثمر أهم و أجدى كثيراً من الحرص على المال العام الذي فرطت به ادارات تلك المنشأت، من ذلك كله أصبحت الخصخصة لهذه المنشآت هو الدواء الشافي لحل مشاكلها الكثيرة وحسمت الكثير من الدول امرها وأتخذت قراراها بخصخصتها بعد دراسات واستشارات دقيقة وعميقة وحققت فيه نجاحاً كبيراً ان أهم ما يمكن تحديده من مزايا لعملية خصخصة منشآت القطاع العام هي الاتي :- أولاً / أسترداد رأس مال تلك المنشآت والذي أنفقت الدولة عليها من الاموال العامة مبلغاً كبيراً وعودته أيراداً لموازنة الدولة يخفف من عجزها ( أو يداوي بعض جراحها ) ويمكن أن توجهه نحو منشآت أقتصادية وأجتماعية . ثانياً / زيادة أنتاجية وكفاية هذه المنشآت بما يحقق وفراً في السوق من سلعها وبضائعها المتخصصة فيها فيسد حاجة المواطن المستهلك ويقلل من استيراد السلع المشابهة وأستنزاف الموارد من العملات الاجنبية الصعبة . ثالثاً / زيادة واردات موازنة الدولة مما تجبيه من ضرائب ورسوم على هذه المنشآت بعد تحويلها الى منشآت خاصة وبما يحقق زيادة أنتاجيتها وربحيتها . رابعاً / التخلص من كل مساوء الفساد الاداري ومظاهره التي تسود غالباً المنشآت العامة لأسباب عديدة لا مجال لسردها في هذه الخاطرة المختصرة . هذا وفي كل الاحوال لا يمكن الجزم دائماً بأن الخصخصة ستحقق المن والسلوى حال ممارستها بل ينبغي على الحكومات والشعوب التي تحصل في بلدانها تلك العملية أو تتوقع بعض السلبيات او المشاكل التي تقع أثنائها وهنا يمكن القول أن العبرة في كفاية عملية الخصخصة هو تفادي سلبياتها والعمل بحذر لتجنبها وتفاديها وليس الانتظار حتى تقع ومن ثم التفكير في كيفية تجنبها لذلك فأني سأركز على اهم ما يتوقع من سلبيات في عملية الخصخصة وسبل علاجها :- 1. أن يكون تقويم هذه المنشآت و موجوداتها لغرض بيعها بالأسعار الجارية وليس بالأسعار التاريخية وذلك حتى لا يبذر رأسمالها وتهدر قيمتها ولا شك أن ذلك يكون في الحالتين إن كان الوضع الاقتصادي متضخماً أم منكمشاً . 2. ان لا تكون خصخصة هذه المنشآت وبالاً على العاملين فيها ويسرح عمالها وتنهى خدمات أدارييها بل ينبغي معالجة هذه الحالة بكل حنكة وروية بحيث تستفيد الجهات التي ستمتلك هذه المنشآت من أفضل كوادرها وإداريها ولا غرو من أن تسرح من يفضل منهم ان تنهي خدماته فيها مع استلامه لكل حقوقه منها . 3. أن لا تكون عملية الخصخصة وسيلة للأثراء السريع فتقوم الجهات المالكة الجديدة بتصفيتها أو بيعها من أجل الحصول على فارق الأسعار منها والتخلص من أعبائها كما حصل لدينا في العراق في حالات مشابهة . 4. أن تكون هناك رقابة مستمرة على إنتاجية وكفاية المنشآت المخصخصة دائماً لتحقيق أهداف الخصخصة الاقتصادية والاجتماعية وليس أن تكون عملية القصد منها مجرد السير وراء المودة كما يحصل في كثير من الدول والذي نرجو من الله أن لا يكون كذلك في بلدنا العراق بل هي خطوة اقتصادية هامة على الطريق الصحيح نحو بناء اقتصاد مزدهر بعد اقتصاد مندثر . هذا ما وددت أن أقوله في الخصخصة ولي عودة وعودة أخرى في تفصيلاتها وشؤونها المختلفة أن شاء الله .
أ. د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
التعليم العالي والبحث العلمي في العراق منذ انهيار النظام وحتى الان خطوة الى الامام وخمسة الى الوراء
يحظى قطاع التعليم العالي والبحث العلمي بجامعاته ومؤسساته الاخرى تعليمية كانت أم بحثية بإهتمام أبناء الشعب العراقي كافة لأسباب مختلفة أولها واهمها كونه يعدهم بمؤهلات علمية وتعليمية عالية وثانيهما يساهم مساهمة فعالة جداً في تنمية وتطوير البلد إلا أننا نرى وبمراجعة سريعة الى مدى أهتمام الحكومات السابقة ومنذ تأسيس جامعة بغداد في سنة 1957 نجدها لم تعط الاهتمام الكافي لذلك القطاع الهام وما خصص للإنفاق عليه لم يكن بالمستوى المناسب أو كما ينبغي أن ينفق في بلد عزيز ماؤه ووفير نفطه ورغم تدفق الاموال في أواسط السبعينات وحتى أوائل الثمانينات إلا ماأنفق على تطوير وتنمية هذا القطاع لم يكن الا شحيحاً ونسبة ضئيلة من صافي الدخل القومي للبلد ولا أريد أن اعيد ذكر ما حصل او ألم بهذا القطاع من ظروف كارثية خلال فترة الحصار إلا اني اريد ان ادخل بالكلام حسب عنوان خاطرتي هذه ولا اطيل اكثر مما قدمت واعتقد أن الكثير من منتسبي هذا القطاع توقعوا أن يتقدم مئات الخطوات الى الامام بعد انهيار النظام وزوال القيود والعقبات التي كانت تعيق تطوره إلا اني لاحظت أن ما حصل هو أنه خطى خطوة واحدة الى الامام وتراجع خمس خطوات الى الوراء .
كيف ياترى كان أو حصل ذلك فاني استطيع ان أركز في ذكرها كالآتي :- الخطوة الى الامام كما أعتقد كانت تمكن أعضاء هيئة التدريس من أنتخاب عماداتهم ورؤساء جامعاتهم وهي الخطوة الوحيدة الى الامام التي تحققت بالرغم من قلة التدريسيين الذين ساهموا في هذه العملية وعجالتها . أما الخطوات التي كانت الى الوراء فاستطيع أن احددها كما يأتي :- اولاً / لم يستطع قطاع التعليم العالي في هذه السنة من الحصول على الدرجات الوظيفية لأستكمال ملاكات الجامعات العلمية التدريسية والبحثية ( التي لا يزال أغلبها خارج الخدمة ) للعمل في الجامعات التي انجز أبحاثه فيها وحصل على شهادته فيها وهو ما لم يحصل طيلة أكثر من خمسين سنة من حياة التعليم العالي والبحث العلمي في العراق . ثانياً / لم تكن هناك موازنات مالية مخططة بصورة أصولية وواضحة أو قل لم يكن هناك وضوح ودقة في إعداد الموازنات المالية اللازمة لتسيير النشاط العلمي والاداري والمالي في الجامعات العراقية في حين كان يقتضي أن يحصل العكس خلالها مما أثر بصورة سلبية واضحة على أداء الجامعات وكلياتها . ثالثاً / إن احد المحاور الرئيسية لقطاع التعليم العالي هو الطالب المنتسب اليه سواء في الدراسات الجامعية الاولية او الدراسات العليا فلم نلمس أي اهتمام في هذا المحور الرئيسي كتحسين ظروف تدريسيه وتوفير القاعات الدراسية المجهزة والمريحة وزيادة عدد المقبولين في الاقسام الداخلية وتجهيزها بالمستلزمات المريحة وصرف المخصصات المالية المناسبة فضلاً عن توفير خدمات أخرى مناسبة له . رابعاً / كما وان من المحاور الهامة جداً في نشاط التعليم العالي والبحث العلمي هو الكتاب فلم نجد في هذه السنة أي اهتمام في توفير الكتب العلمية كمراجع او مصادر علمية أو كتب تعليمية وأن ما خصص في موازنة التعليم العالي لهذا العام لسد الحاجة منها كان نزراً يسيراً لا يوفر لها إلا كتيبات لا تسد الا حاجة ضيئلة منها مما يعني بقاء الاقسام العلمية بعيدة عن متابعة اخر التطورات والبحوث والنظريات العلمية . خامساً / اما المحور الثالث الهام أيضاً في العملية التعليمية كما هو معروف فهو التدريسي الجامعي فلم يلق الاستاذ او التدريسي الجامعي أي اهتمام معنوي او مادي فبعد أن تساوت رواتبهم حتى مع من حصل على شهادة الاعدادية فقد التدريسي الجامعي لكل أمتيازاته التي حقها له قانون الخدمة الجامعية وتعديلاته او القرارات العديدة التي صدرت لتحسين احواله المادية والجامعية ومنها مخصصات الخدمة الجامعية ومخصصات الشهادة الجامعية العلمية ومخصصات اللقب العلمي ومخصات السكن والنقل كما وان التخصيصات المالية لأجور المحاضرات الاسبوعية التي يعوض فيها التدريسيون من هم على الملاك الدائم الشواغر الكثيرة فيه لم يخصص لها ولم تمول على وفق الحاجة الحقيقية مما جعل صرفها يتأخر لأشهر عدة في حين يقتضي الامر شرعاً وقانوناً صرفها في الاسبوع الاول من الشهر الذي يلي الشهر الذي القيت فيه، فهل يا ترى أن وزارة التعليم العالي على علم بذلك التأخير وهل حاولت التعجيل في التمويل المالي لصرفها أو زيادة التخصيصات المالية اللازمة أن أقتضت الزيادة في ذلك، الاجراء الذي اتخذته وزارة التعليم العالي كان عجباً ( وأن لم في شهر رجباً ) فهو تخفيض الاجور الاستثنائية والتحفيزية للمحاضرات الاضافية في التخصصات النادرة كالرياضيات مثلاً لعدم توفر التخصيصات المالية اللازمة في الموازنة وأنا أتساءل أي موازنة وكم هي تخصيصات موازنة الدولة وقطاع التعليم العالي منها . أني اطالب وزارة المالية بالاعلان عن الارقام، الايرادات المتوقعة والمصروفات المتوقعة وكيفية إنفاقها وما هي حصص الوزارات المختلفة منها وأعتقد من الضروري أن يوضح في تفاصيلها الايرادات ليس فقط ما يتضمنه تصنيفها المعتمد من قبلها وانما المصادر الاتية كذلك :- 1. الاموال المستردة من افراد النظام السابق ومسؤوليه. 2. الاموال المتحققة من برنامج النهب مقابل الغذاء. 3.الاموال المتحققة من مساعدات الدول المختلفة ( والتي سميت بالمانحة ) التي اصبحت مصدر لثراء شركاتها التي أغلبها لصوصية .
أ. د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
البعثات الدراسية بين الماضي والمستقبل
في مطلع سنة 1970 وما بعدها قمت بحكم المسؤولية الرسمية في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بجرد اضابير طلبة البعثات الدراسية خارج العراق وتدقيقها، منذ بدء العمل بتلك البعثات حتى تلك السنة كان الهدف من ذلك امرين الاول :- تطبيق العقود المبرمة معهم وما تقتضيه تلك العقود من عودتهم الى العراق والعمل بما حصلوا عليه إيفاء بالشروط المبرمة، والثاني :- التحقق من أنجازهم دراستهم من دون إبطاء لحاجة مؤسسات الدولة الماسة في ذلك الوقت الى خدماتهم، ومن ثم تطبيق العقد بحق المنجز دراسته ولم يعد الى القطر او الذي فشل فيها إذ يقتضي العقد إعادة المبالغ المنفقة وما صرفته دائرة البعثات وتسجيل تلك المبالغ المعادة ايراداً نهائياً للدولة لأن العراق كان في حينها يعيش أنكماشاً أقتصادياً خانقاً وحاجة للأموال كبيرة . وعندما باشرنا بهذه الاعمال وقفت على حقائق ومعلومات مهمة كان أبرزها المستوى العالي جداً لهؤلاء المبعوثين سواء قبل البعثات عند اختيارهم لها في العراق أو من خلال متابعة المصير الدراسي لهم في الجامعات التي درسوا فيها الذي تشير اليه التقارير العلمية الصادرة عنهم في تلك الجامعات أو ماتشير اليه تقارير الاساتذة المشرفين عليهم وإن مستوياتهم العلمية وأداءهم العلمي والمهني كانة متميزاً جداً في العراق أو في خارجه ممن فضل البقاء والعمل هناك لأسباب شتى وحرم البلد من تخصصاتهم وخبراتهم وكان منهم المحق في بقائه ومنهم من لم يكن كذلك . ومن الاسباب الرئيسية التي ادت الى فشل كثير من الطلبة المبعوثين وعدم عودتهم أن جزءاً كبيراً منهم كانوا صغار السن إذ أنهم من خريجي الدراسة الاعدادية ولم تكن في القطر جامعات بل كليات ومعاهد عدة فكان اندماجهم في الحياة الغربية سريعاً وتزوج الكثير منهم من بنات تلك الدول ومما زاد الامر سوءاً إن الملحقيات الثقافية لم تكن ذا كفاية عالية في أداء مهامها وإن كثيراً من العاملين كانوا ( حسب رأيي ) ليس بالمستوى المطلوب الذي يمكن أن يؤدوا واجبهم كما يرام يزاد على ذلك عدم كفاية بعض العاملين في مركز الوزارة المسؤولة عن البعثات والزمالات الدراسية ( وزارة التربية في ذلك الحين ) وكذلك قلة الرواتب والمخصصات الممنوحة للطلبة في أغلب الاقطار المبعوثين إليها إذ كانت لا تكفي لسد احتياجاتهم ساعد هذا الحال مع بيروقراطية تعامل أغلب الملحقيات الثقافية لهؤلاء المبعوثين وشعور معظمهم بعدم تمكنه من الحصول على الوظائف والرواتب الملائمة لعيشهم بالمستوى المناسب لشهادتهم العلمية وخبراتهم العملية وكذلك توقعهم _ وهم على حق _ بأنهم لن يجدوا في بلادهم الجامعات والمؤسسات التي تحتضنهم وتحقق لهم طموحهم بسبب التخلف الاقتصادي الذي كان يعيشه العراق كل ذلك ادى الى عزوف معظم المبعوثين عن العودة الى العراق والعمل فيه إيفاء بواجبهم الوطني أو بالعقود المبرمة معهم . وعند نشوب الحرب الاسرائيلية العربية في حزيران عام 1967 وهزيمة العرب فيها بادرت الحكومة العراقية الى تحسين اوضاعها واستعداداتها العسكرية لمواجهة أسرائيل وذلك بإتخاذ عدد من الاجراءات كان منها إيقاف البعثات العلمية خارج القطر فأصيبت الحركة العلمية في العراق جراء ذلك بضعف كبير وحرم العراق من موارد بشرية مؤهلة تأهيلاً عالي المستوى، وهكذا فان اسرائيل التي هزمت العرب بفضل سلاح العلم نتراجع أمامها أكثر فأكثر بقطع الصلة بيننا وبين العلم وموارده . أما ابان النظام السابق فقد توافرت الرغبة لديه لسد الحاجة من الموارد البشرية اللازمة لرفد الجامعات والمؤسسات الاقتصادية فأعيد برنامج البعثات العلمية وصدر نظام البعثات ذو الرقم 46 لسنة 1971 الذي تضمن مرونة عالية في آلية اختيار البعثات والتعامل معها مما ساعد في كفاية النظام هو التعليمات عدد ( 1 ) لسنة 1972 التي الحقت به وكان لي دور رئيس في إعدادها وهي تعنى بأمور المبعوثين وشؤونهم . بدء برنامج البعثات هذا بداية علمية جيدة وخصص له الدعم المادي اللازم وكان انتقاء المبعوثين على وفق معايير مناسبة أيضاً وعندما اغرقت أموال النفط موازنة العراق و فاضت أصبح بإمكان الدولة التوسع في برنامج البعثات ومن ثم الزمالات والايفادات والمساعدات الدراسية مما وسع برنامج البعوث العلمية وعمق أختصاصه ومن ثم زيادة الانفاق على طالب البعثة او الزمالة لسد متطلباته الدراسية والمعاشية هو وعائلته إن كانت ترافقه ومع ذلك لم يسلم هذا البرنامج من مظاهر سلبية صاحبته أنعكاسات سيئة على مجمل أهدافه وكان أهم تلك المظاهر :- اولاً / خضوع الكثير من البعثات والزمالات الدراسية للمحاباة والترشيح الحزبي وجعل الولاء للحزب أساساً للحصول على فرصة هذه البعثات مما ادى الى ترشيح اعداد كبيرة غير مؤهلة علمياً لهذه المهمة . ثانياً / تهافت الكثير من الخريجين ذو المعدلات الضعيفة للحصول على البعثات لا لأهداف علمية وإنما لمغانم مادية أو أعتبارات اجتماعية . ثالثاً / أضمحلال الرغبة في التحصيل العلمي للمبعوثين واقتصار الغاية على الرغبة في السفر والتمتع بالعيش في اجواء الدول الغربية الساحرة وهذا ما كان يعشعش في اذهان الكثير من الطلبة الشباب وربما وصل الامر الى ان السعي للحصول على بعثة او زمالة غايته مجاراة هذا الصديق او ذاك الجار . إن هذا الذي اذكره إنما هو ملاحظات شخصية وليس فيها إتهام لأحد وقد يكون للآخرين رأي آخر في هذا الموضوع ونحن نحترم كل الآراء إذا ما بنيت على أسس موضوعية . أقـــول :- على الرغم من كل تلك السلبيات فأن برنامج البعثات استمر حتى اواخر السبعينات وأوائل الثمانينات ولكنه كان يسير كالسلحفاة وكان السبب الرئيس في ذلك الحروب والازمات التي ادخلنا فيها ذلك النظام إلا ان برنامج البعثات شهد دفعة جديدة نحو الامام في اواسط الثمانينات ولكنه لم يستمر إلا بضعة اشهر ثم اوقف مرة اخرى وذلك لإنخفاض ( بل انهيار ) اسعار النفط في ذلك الوقت واستمرت الامور على هذا الحال من الرتابة حتى حصول الكارثة الكبرى بدخول قوات قائد المسيرة ( الى الوراء ) الكويت من دون مسوغ أو لأسباب تافهة وأستمر التوقف لبرنامج البعثات والزمالات بسبب الحصار إلا بما كان يتصدق به على العراق من دول الجوار أو من بعض الدول الاخرى مما لا يغني ولا يسمن من جوع العراق الى الاختصاصيين والخبراء مما دفع ذلك اللانظام الى التعويض عن ذلك بتطوير برامج الدراسات العليا في العراق الذي ذكرت تفاصيله في موضوع سابق . هذا هو حال البعثات الدراسية في العراق الذي لم اجد له مكانة تؤهله ليكون جزءاً من عنوان هذا المقال فكل من كان يبعث إنما كان بفضل زمالات أتت من مساعدات هذه الدولة او تلك . إن اطلاق برنامج البعثات الطموح الذي كانت بدايته ما اعلن عنه من بعثات وتزامن هذا البرنامج مع حملة التعيينات لأصحاب الشهادات العليا ( الماجستير والدكتوراه ) سيكون له بعون الله وتوفيقه أفضل النتائج العلمية والعملية والجامعية المؤثرة في مسيرة العراق وهو جدير بها فهو الموطن الاول للحضارة على ارضه المباركة نشأت العلوم والفنون والاداب وأرى من متممات هذا الموضوع أن اذكر بعض النقاط التي تعزز نجاح هذا البرنامج وهي باختصار :- أولاً / أن يكون انتقاء الطلبة المرشحين للبعثات ممن هم بدرجات متميزة علماً واخلاقاً وانضباطاً من دون مجاملة او محاباة . ثانياً / أن يكون الانفاق على المبعوثين بمستوى يناسب سد احتياجاتهم لكي لا تقف ضآلة الانفاق او التقتيير امام مواصلة المبعوث سعيه الحثيث للحصول على افضل النتائج وأن لا يضطره الحال الى البحث عن مصادر أخرى من الاموال بطرق لا تليق بطالب البعثة . ثالثاً / أن تحظى الاختصاصات النادرة او التي يحتاجها البلد بمركز الصدارة في الاختيار او الترشيح وان يقل التركيز على الاختصاصات التي يمكن لجامعتنا أن ترفد البلد بها على أن لا نغفل أهمية تطوير هذه الاختصاصات داخل العراق والانفاق عليها بصورة مناسبة ولاسيما إن كلفها في العراق اقل بكثير من كلفها في البلدان الاخرى . رابعاً / أن تقوم الملحقيات الثقافية بمسؤوليتها كاملة وبأعلى المستويات من الكفاية والنزاهة والحكمة وان يكون هدفها الرئيس خدمة المبعوثين وتأمين تحقيق الاهداف المرجوة من بعثاتهم لا ان يكون جمع المال والنزهة في بلاد الاغراب هدفاً لا يعلو عليه هدف .
… ومن الله التوفيق …
أ. د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
إذا الإيمان ضاع فلا أمان
لا يستطيع أي امرئ ذي عقل سليم ان ينكر ـ أو يدعي انه لا يعرف ـ ما للأديان السماوية التي أنزلها الله على أنبيائه (عليهم السلام) من فضل على البشرية وانتقالها ـ ومنذ الاف السنين ـ من مجتمعات همجية تعيش حياة بدائية لا تختلف كثيراً عن تلك التي تعيشها الحيوانات ، إلى مجتمعات متحضرة ، يسودها الخير والرحمة والتعاون . ولا أعتقد أنها وصلت الى ذلك إلاّ بإيمانها بربّها ، وما أنزله عليها من آيات العلم والمعرفة و الاخلاق ،التي تضمنتها الكتب السماوية المقدسة للأديان، التي نظمت علاقة الفرد بغيره من بني البشر ، وعلاقته بربه . ولا تختلف المجتمعات في ذلك إلاّ بمقدار هذا الإيمان ، الذي تتفاوت فيه بين مجتمعات مؤمنة إيماناً متجذراً في كل مفاصلها ، وملتزمة بكل ما انزله الله على إنبيائه ورسله ،في معارف ابنائها وأخلاقهم ، ومجتمعات تفيد من غيرها في عاداتها وأخلاقها فتأخذ منها أفضلها ، وأكثرها مناسبة لها. وفي عراقنا ، وتاريخه الحديث ، تؤكد الوقائع ـ وما كتب عنها ، وما قيل فيها ، وما تحدث به المتحدثون وأرّخه المؤرخون ـ أن ماحصل في ثورة العشرين ( تلك الثورة العارمة التي زلزلت اقدام الامبراطورية البريطانية ) كان سببه الرئيس هو الشعور الوطني والسعي لطرد المحتل , وأن الباعث على هذا الشعور وذلك المسعى كان الالتزام الديني ، والإيمان الذي أشعل جذوة الثورة على الاحتلال إذ لا يستقيم وجود الاحتلال مع ما يفرضه الدين من جهاد في سبيل الله ،و أنقاذ للوطن من براثنه ، فلا يؤدي وجوده الاّ الى تخريب البلاد ونهب الثروات ، وليس لديه وسيلة أسهل وأمضى لتحقيق مآربه من تخريب الاخلاق والقيم التي تستند إليها ، والتي عززتها وأكدتها الاديان السماوية ، وفي مقدمتها ديننا الاسلامي. لقد كان محرك ثورة العشرين ودافعها الاساس الشعور الديني بالواجب الوطني المقدس ، فقادها رجال الدين في العراق من مختلف الطوائف والاديان, وقد قرأت مراراً ـ ما أكده المؤرخون والسياسيون ـ ان تلك الثورة العظيمة جعلت دهاقنة الاستعمار البريطاني يفكرون في أسرع السبل التي يمكن ان تحجم هذه العقيدة الراسخة ـ والالتزام بها ، والطاعة التامة لقيادتها ـ فتفككها لتضعفها. وبدأت تعمل بأسلوبين، اولهما اضعاف تدريس الدين في المدارس الحديثة التي أنشأتها وبنت النظام التعليمي بموجبها, وثانيهما إضعاف الوازع الديني في الحياة العامة. فكان درس الدين ـ كما اتذكر ـ درساً ثانوياً ، قبل ثلاثين عاماً أو أقل أو أكثر، حتى أن الكثير من الطلبة لا يؤدون امتحان درس الدين أو التربية الاسلامية. وكان هذا التوجيه ـ ولازال ـ عاملاً من عوامل إضعاف الالتزام الديني لدى الطلبة ، من الابتدائية حتى الاعدادية ، وهي المرحلة الأهم التي يبدأ فيها البناء التربوي والاخلاقي بالنضج ، ومن المؤكد أن ذلك ينسحب على الطلبة الجامعيين. وخلال فترة ثمانين عاماً مضت ، شهدت بلادنا ظهور أحزاب تعتنق مبادئ رجعية متخلفة ، وأخرى بمبادئ ليبرالية ، أو علمانية ، أو شيوعية ، أو مبادئ ماركسية ، أو وجودية ، أو حتى شيطانية مختلفة، إلا أن السلطات كانت ترتعش خوفاً من أي توجه نحو تأسيس حزب اسلامي يعتنق المبادئ الاسلامية وشريعتها السمحاء ، متذرعة في ذلك بشتى الذرائع ، أما غالبية أبناء الشعب ، فهي لا تعلم ماذا تفعل أو تقول ، اما خوفاً من بطش السلطات ـ التي لم تكن تتوانى عن فرض اقصى العقوبات ـ أو أنها غير مطلعة على احكام الشريعة الاسلامية بما يكفي لإدراك أن الدين تنظيم لحياة الأفراد بكل أشكالها , أو أنها متأثرة بما يروج له المعجبون بالثقافات الغربية و افكارها العلمانية ، أو الحكام المتسلطون الذين كانوا يريدون بقاء تسلطهم ودكتاتورياتهم بالفصل بين الدين والدولة ، بانصراف علماء الدين الى شؤونهم الدينية وترك أمور الدولة لهم ، وحقيقة هذه الدعوة تبرير أستئثارهم بالسلطة واستمرارهم بنهجهم الدكتاتوري وأبتعادهم عن الديمقراطية ،التي يتشدقون احياناً بها ، وهي منهم براء. أعود الى عنوان خاطرتي هذه التي أقتبستها من قصيدة الشاعر الباكستاني العظيم أقبال لأنها حقيقة واقعة في عراقنا هذا, وماذكرته في الجزء الاول من هذه الخاطرة , يبين أن ماحل بنا من أحوال ، كان بسبب عدم اهتمام الدولة والنظام التربوي بالتثقيف الديني ، الذي يرسخ قيم ومثل الفضيلة في كل شيء ، في الدنيا والآخرة . فضعف الوازع الديني سبب رئيس للكثير من المشكلات الأخلاقية ، والسلوكيات المنحرفة ، لأن الشريعة الإسلامية نظمت حقوق الفرد وواجباته ، ولو بحثنا في خلفية تربية من يسرق ، أو يغش ، أو يرتشي ، أو يكذب ، لوجدنا خللاً فاضحاً في الالتزام الديني ، لأن الدين حدد حكم السارق ، ومنزلة يغش (من غشنا فليس منا) ولعن من يرتشى , ومن يكذب ، بل أن نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) عد الكذب باب كل المعاصي والكبائر . وإذا أردنا علاج كل هذه الآفات ، فالدين هو البلسم الشافي ، ورحمك الله أيها العظيم الشاعر والفيلسوف أقبال.. إذ قلت : إذا الإيـمان ضاع فلا أمان و لا دنيا لــمن لم يحي دينا
أ. د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
استضعفوك فوصفوك
عندما كنا طلاباً في الصف الثاني المتوسط كان مدرس الرياضيات يهوى الشعر العربي، ولطالما كان يحول درس الرياضيات ليكون درساً في الادب العربي يقرأ لنا قصائد جرير والفرزدق وابو العلاء المعري الذي كان فيلسوفاً ونباتياً كذلك ( أي لا يأكل اللحوم وانما غذاءاً نباتياً فقط ) وذلك لرأفته بالحيوانات ورفضه لقساوة ذبحها كما قص علينا المدرس ( يرحمه الله ) ولكن ابو العلاء المعري عندما اشتد عليه المرض يوماً ابى ان يحتسي حساء الفروج حين قرره أطباءه لان ذلك احد عوامل شفاءه وبعد أصرارهم على ذلك وأجبارهم له باحتسائه تناول الصحن وقربه الى فمه وقال ( استضعفوك فوصفوك هلا وصفوا شبل الاسد ) فأي حكمة رائعة في هذه ويالها من فلسفة عميقة ونحن نشاهد ونرى ونسمع بظلم الضعفاء وأذلالهم لا لسبب الا لأنهم فقراء وكم يعز الاقوياء ويكرموا لا لشئ إلا لأنهم أغنياء ذو جبروت ومال، تذكرت قول أبو العلاء المعري هذا وترجمت على مدرس الرياضيات الذي أعلمنا بشئ من فلسفته الذي قال فيه الشاعر الجواهري :- قم بالمعرة وأمسح خدها التربا واستوح من طوق الدنيا بما هوبا لثورة الفكر تـاريخ يحدثنـــــــا بان الف الف مسيح دونها صـلبا أقول تذكرت القول ونحن نقرأ ونسمع ونجادل كثيراً حول موضوع تحويل شركات قطاعنا العام الى القطاع الخاص وليس القطاع الخاص الوطني ولكنه القطاع الخاص الاجنبي وإذا ما استقرئنا الشركات الصناعية العامة المهيئة للذبح ( أي المخصخصة ) نجد منها الاتي على سبيل المثال وليس الحصر ( كما علمنا والله اعلم ) :-
وهكذا هم جزءاً كبيراً من شركات تميزت بالعراقة في الانشاء واصالة في الانتاج وشهرة واسعة في العلامات ووفرة في الارباح وان لم تكن كذلك فهي ليست بسبب كونها عامة بل بسبب ضعف كفاية اداء مسؤوليها وان فتشت عن أسباب ذلك نجدها غالباً فضلاً عن ظروف عامة اخرى هو تسلم أدارتها مسؤول غير مناسب في مكان غير مناسب، فإذن ما حدا بدا وهذا التوجه السريع نحو هذه المؤسسات بذبحها ( خصخصتها ) . أني استطيع ان أجزم أن أسباب ذلك هو كونها مؤسسات ناجحة وليست فاشلة وهي مؤسسات عريقة وليست نكرة او موهومة وهي مؤسسات رابحة واقرة وليست خاسرة، وأن سجلت خسارة أو فشلاً ما فأن إصلاحه وتقويمه أمراً سهلاً وبسيطاً أن أسندت إدارتها إلى إدارات ومسؤولين أكفاء أقوياء متعلمين ومتخصصين في الاختصاص والادارة اما تسبب امر خصخصتها لكبوتها فانه لأمر حق يراد به باطل فلماذا لا نلجأ الى الاساليب العلمية الفنية والاقتصادية والإدارية الصحيحة لتقويمها بدلاً من طرحها للاستثمار الاجنبي لألتهامها، السبب في ذلك يا اخوان إنها الدجاجات التي ستبيض لملتهميها ذهباً والتي ستمكنهم من استعادة رأس المال خلال بضع شهور وليس سنوات لذلك فأنا أقول لهذه الشركات أستربحوك فيريدوا أن يخصخصوك وليس غير ذلك وان لم يكن كذلك فلماذا لا يخصخصوا شركة الكهرباء وهي علة على العلل في الاقتصاد والمجتمع العراقي ولماذا لا يخصخصوا الشركة العامة للأتصالات الهاتفية والتي تقدم أسوء الخدمات الهاتفية واكبر مصدر لأزعاج المواطنين من أصحاب الهواتف من مشتركيها ولماذا لا يخصخصوا شركات نقل الركاب التي نهبت كل حافلاتها التي تحفل بها شوارع العراق والدول المجاورة ولماذا لا تخصخص مصلحة المجاري العامة التي طفح الكيل بأنسدادات مجاريها ولماذا لا يخصخصوا هذه الشركة او تلك من أفشل الشركات اكثرها فساداً في الادارة والاداء وان أستعرضنا مثل هذه المنشآت والشركات والمصالح لوجدناها قائمة طويلة تفوق أضعاف أضعاف الشركات المهيأ للخصخصة، إن هذه الشركات او المنشآت او المصالح لو خصخصت لقال لها الناس مع السلامة ( روحة بلا رجعة ) فلماذا لا تخصخص هذه الشركات والمصالح هل نقول لها (أستسخروك فلم يخصخصوك فأنت أشبه بشبل الاسد ) الذي تحدث عنه المعري، لأن من يريد أن يلتهم أقتصاد العراق يسهل عليه التهام الشركات التي هي كالدجاج الذي وصف حسائه للمعري وهنا سيكون حسائها ذهباً وان الشركات والمصالح الفاسدة هي كأشبال الاسود يتركوها لألتهام ما تبقى من أموال العراق وما في جيوب العراقيين أن تبقى فيها شيء ورحم الله ابو العلاء المعري الف الف مرة . … ودمـــتـــم …
أ. د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
من مخلفات الماضي….موارد العراق تحولت الى التصنيع الحربي وليس للبناء
في اواخر اربعينات وبداية الخمسينات (كما اتذكر)، كان كل تغيير وزاري يحصل في العراق يحدث قلقاً كبيراً بين موظفي الدولة العراقية ان جاء في تشكيلته وزير معين للمالية، وذلك لما عرف عنه من اتباعه طرق في معالجة الازمات المالية، وفعلا تبدأ فوراً اجراءاته التقشفية من تخفيض لرواتب الموظفين أو عزل الفائض منهم وغيرها الكثير من الاجراءات التقشفية، وهذه الاجراءات واضحة للاقتصاديين وغيرهم فهي دليل وجود أزمة اقتصادية وعجز في الموازنةلا يمكن سده بالاقتراض لشحة الأموال وضعف الاقتصاد العراقي عموماً في ذلك الزمان، هذا وما زالت أتذكر إعلانات وزارة المالية في الأخبار المحلية عن طرح سندات اذونات الخزينة للحصول على أموال تيسيراً لأمورها المالية. إن تدفق الأموال بعد إقرار اتفاقية مناصفة أرباح شركات النفط العراقية منذ اواخر الخمسينات وما بعدها والتي خصصت اغلبيتها لمشاريع البناء الأساس (التحتاني) وبالرغم من بعض الملاحظات البسيطة عليها إلا أنها حققت ثورة اقتصادية كبيرة ونقله في الوضع الاقتصادي والاجتماعي في العراق نحو الأفضل واستمر الحال على هذا النحو حتى بعد قيام العهد الجمهوري في سنة 1958 وما بعدها لسنة 1962، حيث لم تعان موازنة الدولة من أي عجز ولم تكن اتفاقيات القروض التي ابرمت مع الدول الاشتراكية هي للحاجة للأموال بل كانت للحاجة لاقامة قطاع صناعي يكمل النمو في القطاعات الاقتصادية الاخرى ويسد الحاجة للمنتجات الصناعية التي يحتاجها العراق بإنتاجها وطنياً بدلاً من استيرادها اجنبياً. هذا وكانت سياسة الانفاق الاستثماري الواسعة التي كان يتوق لتنفيذها رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم في ذلك الحين سبباً لشحة الأموال اللازمة للاستمرار في هذه السياسة، وكانت في اخر سنة من سنوات حكمه مؤشرات لازمة مالية لم تظهر ولم تعلن تفاصيلها حتى الوقت الحاضر. اما في السنوات منذ 1964 وحتى 1968 وهي ما تعرف بتسميتها بالمرحلة العارفية فكانت مرحلة انكماش اقتصادي واضحة وقلة في الانفاق الاستثماري أو يكاد، حيث لم يكن هناك ما يميز تلك المرحلة من انجازات اقتصادية مهمة، سوى اعدادها كخطة اقتصادية خمسية متميزة علمية بفضل كفاءة من الوزير الذي اشرف على اعدادها وان لم يوفق في تنفيذها. اما في بداية عهد تسلم حزب البعث مقاليد الحكم في العراق منذ سنة1968، فقد استمر الاتجاه نحو التقشف في الانفاق لعام عموماً وتوجيه المبالغ المخصصة للانفاق الاستثماري الصناعي بالدرجة الأساس، وكذلك تنفيذ الاتفاقيات الاقتصادية (والتي كانوا هم السبب الرئيس في تعذر تنفيذها) لما تضمنته من مشاريع اقتصادية صناعية هادفة وفعلاً تحقق نجاح كبير في ذلك الحين وبالرغم من هذا الوضع المالي الانكماشي والاجراءات الكثيرة التي اتخذت لايجاد مصادر للتمويل (كالبدل النقدي، وتحديد رواتب الاناث لمدة سنة براتب جندي مكلف، والادخار الاجباري وشمول المعلمين بالبدل النقدي وغيرها) الا اننا لم نسمع (كما اتذكر) بلجوء الدولة الى قروض داخلية كبيرة أو اللجوء إلى دول اخرى للاقتراض، لا بل استمعنا مرارا لرئيس النظام السابق استهزاءه لمبلغ المساعدة الذي عرضته احدى الدول الخليجية على العراق) وفضلاً على تلك الظروف المالية الصعبة سمعنا وقرأنا خبر تكريم محافظ البنك المركزي العراقي في ذلك الحين كفايته تسديد جميع القروض التي في ذمة الدولة العراقية والتي لم تعرف تفاصيلها او حجمها ولا غرابة في ذلك فالمرحوم الدكتور فوزي القيسي استاذنا في مادة النظرية النقدية كان عالماً اقتصادياً فذاً في عمله في كلية الادارة والاقتصاد /جامعة بغداد وكان رجلاً مناسباً في مكان مناسب في المناصب الاقتصادية التي اسندت إليه ومنها مدير عام لمصرف الرافدين ومحافظ للبنك المركزي ووزير للمالية لاحقاً. ان الثروة التي التي جلبها تأميم النفط العراقي وارتفاع اسعاره اضعافاً في اوائل السبعينات وجهت في بداية تراكمها توجيهاً منسباً وأحدثت ثورة تنموية سموها انفجارية صاحبها كذلك انفاق كبير على التسليح وصناعته، عموماً كانت هذه المرحلة التنموية التي حققتها الفوائض المالية ايجابياتها لكثيرة وسلبياتها العديدة ولكن هذا الامر ليس موضوع هذه الخاطرة، ولكن اعود الى صلب القضية وهي القروض المالية في الدولة العراقية عند نشوب الحرب العراقية الايرانية كانت الفوائض النقدية العراقية في المصارف الاجنبية بحدود 70 (سبعين مليار ولار) ( حسب تقديري) وكان العراق رابع اغنى بلد في العالم بالنسبة لتلك الفوائض كيف دخلنا الحرب ولماذا ولمصلحة من اتركها جانباً لاقول حال دخولنا الحرب رفعت القيادة العراقية عموماً في تلك المدة (معتمدة على تلك الفوائض) شعار حرب وتنمية واحيلت الكثير من المشاريع الى شركات اجنبية كثيرة افادت كثيرا من ذلك الشعار ومن قانون المشاريع الكبرى الذي سهل عليها كل شيء وأعطاها كل الامتيازات التي لم تحصل عليها الشركات أو المقاول العراقي بشيء كيف رفع هذا الشعار ولمصلحة من وماذا حقق الله أعلم. أن شعار تنمية وحرب حقق تنفيذ بعض المشاريع ومشاريع كبرى منها حقا ولكنه جاء خلافاً للقوانين والأعراف الاقتصادية في الظروف الحربية التي تحتم الترشيد والعقلانية في الانفاق وتوجيهية الوجهة الاقتصادية الفعالة وليس صرف المليارات للتأكيد بأن عجلة التنمية لا توقفها تلك الحرب ، ولم تمض سنة ونصف السنة واذا بنا امام شعار ترشيد الانفاق والذي استمر لسنوات عدة. شهد الانفاق الحكومي عموماً منذ النصف الثاني من الثمانينات منعطفاً كبيراً وخطيراً حذرنا منه كثيراً وهو الشراء من الشركات الاجنبية بالدفع الأجل وكان هذا التوجه بداية لكارثة اقتصادية كبيرة، حيث اندفعت المؤسسات لحكومية بهذا الاتجاه لسد احتياجاتها الكثيرة حينذاك للاستيراد على وفق هذا الباب الذي فتح لها من قبل الشركات الاجنبية على مصراعيه لتوريدها بالسلع البائرة والمتكدسة لديها وباسعار لا رقابة ولا دليل على صحتها أو افضليتها ولفائدة سنوية قدرها 5% ثم الفائدة 10% وعندما حدد سعر الفائدة بما لا يتجاوز 10% (كما اتذكر) سارعت هذه الشركات الى رفع الاسعار حتى لا تفوت الفرصة في الحصول على العقود التي يسيل لها اللعاب وتبتز الاموال ببضائع يمكن أن أقول إنها كان يمكن الحصول عليها بأبخس الأثمان وليس أغلاها. وهكذا بدأت تتراكم الديون على العراق بفضل منهج الشراء بالدفع الاجل الذي كان جله للمؤسسات التي يشرف عليها رئيس هيئة التصنيع العسكري، ماذا حققت للاقتصاد العراقي وماذا أفادت استطيع الجزم انها لم تحقق الهدف منها الا بنسبة ضئيلة ولكن مبلغها ارتفع حتى وصل اى (15) خمسة عشر مليارا (حسب المعلومات التي حصلت عليها من هناك) وكانت هي من اسباب منزلق الدخول الى الكويت وما جره من ويلات تضاف الى ويلات الحرب العراقية الايرانية وخسائر هائلة من الاموال وتجديد كل شيء في الكويت على حساب العراق وشعب العراق بطرق وقوائم اجزم ان بعضاً منها حق واغلبها باطل ساهمت (حسب علمي) شركات المحاسبة الامريكية المتخصصة بالتزوير وليس بالتدقيق في ترتيبه وكانت مبالغ لتعويضات مئات المليارات من الدولارات . ان توجه النظام نحو الاقتراض لاي شيء وبأي ثمن خلال مدة الحصار الذي جلب للعراق كل العار والشنأر ادى الى تراكم القروض والديون المؤجلة حتى الان (اذا ما اخذنا التعويضات بالحسبان) تتجاوز الخمس مئة مليار دولار (حسب تقديري) ونترك اثر ومبالغ تعويضات الحرب الايرانية العراقية جانباً في الوقت الحاضر. ان اثر تراكم الديون التي اغلبها غير مشروعة ولم تنفق لخدمة الاقتصاد العراقي وشعبه والتي خطط لها جيداً لتدمير الاقتصاد العراقي وركائزه تتطلب منا ان نحقق في الآتي:- أولاً: التدقيق في مشروعية هذه القروض ومدى كفاية وصحة توريدها واستغلالها. ثانياً: متابعة المستفيدين منها ومحاسبتهم على ما اخذوه واستعادة الاموال التي سرقوها لخزينة الدولة. ثالثاً: اعادة النظر في حقيقة التعويضات التي تطالب بها دول الخليج للعراق ومدى صحتها ومصداقيتها. رابعاً: استعادة جميع الاموال المهربة أو المختلسة من قبل جميع الجهات التي مارستها داخلية أو خارجية حكومية أو خاصة عراقية أو أجنبية. خامساً: اسقاط اكبر كمية من ارصدة الديون للدول التي تسعى لاقامة علاقات اقتصادية مثمرة وبناءة مع العراق لما فيه خير للبلدين.
أ. د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
النظامية والثورية و(الطربكية) في الاعمال الادارية
تتنوع الاعمال الادارية في الدوائر الحكومية في العراق, فتكون على انماط مختلفة, وقد شاهدت الكثير من المسؤولين يمارسون هذه الانماط من الادارة طيلة نصف قرن, ولكل من هذه الانماط صفات واساليب تظهر على سلوك المسؤولين عند ممارسة اعمالهم , فالاول منها (النمط النظامي) وهو ذلك الاسلوب الاداري الذي يعتمد على الاسس القانونية والنظامية الشرعية الاصولية التي صدرت على وفق قواعد دستورية شرعية رصينة ودقيقة , اعدت من قبل الوزارات والمؤسسات المتخصصة ثم تبلورت بممارسة المسؤولين في تلك المؤسسات وخبرتهم الطويلة, واستطيع القول ان الجهاز الاداري كان ملتزمًا بهذا النمط حتى نهاية الستينيات من القرن الماضي. اما ما كان يعاب عليه من الرتابة والبيروقراطية التي تشوب اعمال ذلك الجهاز , وبطء اجراءات تطويره وتحديثه فكان ذلك يعود بصورة مباشرة الى قلة المتخصصين وحملة الشهادات العليا في علوم ادارة الاعمال والادارة العامة, ولاسيما العلوم المالية والمحاسبية. اما النمط الثاني من انماط الادارة فقد ظهر لدينا في العراق في اواخر الستينيات واوائل السبعينيات وكان يعتمد على الاسس القانونية والنظامية التي تبلورت منذ قيام الحكم الملكي وحتى اواخر الستينيات واوائل السبعينيات, اذ حاولت حكومة حزب البعث دفع جهاز الدولة الى العمل بطريقة اكثر حيوية وتحديث, والسعي الى تخفيف الروتين والرتابة التي يتسم بها جهاز الدولة الاداري, وهذه المحاولات وان نجحت في بدايتها الا انها لم تكن قائمة على اسس ونظريات علمية ادارية حديثة, سواء ما كان منها ذا مصدر اجنبي او ما كان ينبغي ان يعد على وفق البيئة والظروف العراقية, لذلك لم ترتق تلك المحاولات الى المستوى المنشود في تحديث وتطوير العمل الاداري , ولم تكن تلك المحاولات الثورية في تطوير الاعمال الادارية ناجحة بالمستوى المطلوب. ان الاسلوب الثوري لجأت اليه دول عدة من اجل تطوير جهازها الاداري بما يتماشى مع فكرها الاقتصادي والاداري , سواء اكانت تلك الدول محكومة بحزب واحد يؤمن بالقيادة المركزية وتتصف نشاطاته بالشمولية, ام كانت ذات حكم ديمقراطي, فحصل فيها تطور كبير يتناسب مع تطورها وتقدمها الاقتصادي وكان ذلك التحديث يتسم بطابع اداري علمي ثوري لرصانته وكفاية انتاجه, وتعد الولايات المتحدة الامريكية والمانيا واليابان والدول الاسكندنافية وفي مقدمتها السويد , من الدول التي حصلت فيها مثل هذه الثورية العلمية في التحدديث الاداري. اما الدول الاخرى التي كانت تحت الحكم الشمولي وتؤمن بفلسفة حكم الحزب الواحد او المركزية الديمقراطية فهي في الحقيقة حققت ثورية في تطوير نظامها الاداري بما يتفق وفلسفتها السياسية والاقتصادية, ومن ثم نظمت قواعد واسس انظمتها الادارية بقواعد شرعية وقانونية منسجمة مع فلسفة احزابها الحاكمة السياسية والاقتصادية .اما النوع الثالث من الانماط الادارية التي ارغب التحدث عنه في مقالتي هذه وهو الهدف الرئيس منها, فهو نمط (الطربكية في الاعمال الادارية) وقبل الشروع بالحديث عن هذا النوع, اود الاشارة الى سبب ورود مصطلح (الطربكية) الى الذهن , واعتماده نمطًا ثالثًا من الانماط الادارية فالفرق الكروية المصرية غالبًا ما يكون اداؤها جيدًا في الالعاب الدولية, وقد حققت هذه الفرق نتائج جيدة, ولكننا غالبًا ما نسمع او نقرأ ان في بعض هذه الالعاب تحقق هدف ما على اثر دربكة في منطقة دفاع الخصم, فهذه الحالة اذا كانت استثنائية عند الفرق المصرية فهي عند فرقنا الرياضية تعد قاعدة, فالاهداف التي تحققها غالبًا ما تكون على اثر دربكة (طربكة) امام المرمى ليتحقق بعد ذلك الهدف اليتيم, وقد يكون هدف الفوز على فرق ضعيفة, فنفرح ونشعر بنشوة الفوز ويكبر الامر في عيوننا, واذهاننا, وتخدعنا احلامنا فنظن اننا قاب قوسين او ادنى من كأس العالم, ولكننا نصحو فجأة من سكرة هذا الفوز على اثر خسارة قاسية ,فتسقط علينا كسقوط الماء البارد على رأس السكران في ليلة شاتية. اما الطربكية في الاعمال الادارية التي شابت اعمال الكثير من مؤسساتنا الاقتصادية واداراتها منذ منتصف السبعينيات وحتى الوقت الحاضر فقد حصلت على ما اظن بسببين: الاول منهما : هو اناطة ادارة المؤسسات برجل غير ذي كفاية, وفي موقع لا يتناسب معه على الاطلاق, ولان هذا الرجل طالب ولاية فلا يبادر الى الاعتذار عن استلام هذا المنصب فهي فرصة له وغنيمة فكيف يعتذر عنها, وما يحصل هو عكس ذلك, اذ نراه يهرول لاستلام هذا المنصب, ويتحمل المسؤولية وهو غير قادر على حملها , ثم يباشر في اتخاذ الاجراءات ويصدر القرارات التي لا تصب في الهدف الرئيس, وليس بالاتجاه الصحيح الذي ينبغي ان تكون عليه, فتنقلب الامور رأسًا على عقب, ويصبح عاليها سافلها, واذا ما تحقق نجاح او هدف وسط هذه الفوضى من السلوك الاداري, فأن ذلك لا يمكن ان يكون عائدًا الى الكفاية والخبرة التي يتمتع بهما ذلك المسؤول وانما يحصل ذلك بفضل (الطربكة) التي احدثها في مؤسسته التي يديرها ويصبح حاله مثل فرقنا الرياضية الكروية التي لا تحقق الهدف الا بفضل هذه الطربكة (او الدربكة كما يقول اخواننا المصريون). اما الثاني : فهو اناطة الامور برجل مناسب شغل مكانًا مناسبًا وهو الامر الطبيعي الذي ينبغي ان تسير على اساسه الاعمال الادارية وغيرها, ولكونه كذلك ينتظر منه الاخرون ان يخلق العجب العجاب في بضع ايام من الزمن, ولانه يتمتع بالعلمية والخبرة الطويلة فهو يدرك تمامًا ان المهام لا تسلق سلقًا, وانما تحتاج الى عمل دؤوب ينفذ بدقة, ويحتاج الى وقت لتنفيذه ,الا ان الجميع في ظروفنا السابقة او الحالية على امتداد نصف قرن نعيشون في ظروف (طربكية) لذا فالكل ليسوا على استعداد لانتظار الاجراءات العلمية, ولا استعداد لديهم للسماح للمسؤول الاداري ذي السلوك العلمي السليم وذي الخبرة العريضة ان يأخذ ما يحتاجه من الوقت للتنفيذ فتبدأ الضغوط بشتى اصنافها, فيضطر صاحبنا مكرهًا غير طائع الى مجاراة الاوضاع السائدة والطباع المتأصلة في ادارة الامور على وفق القواعد التي يمكن ان نطلق عليها (القواعد الطربكية) فيتخذ قرارًا لا يخلو من الخطأ وحال ثبوت فشله يقيمون عليه الدنيا ولا يقعدونها وعند ذاك عليه ان يحترم نفسه فيودع المنصب او الوظيفة وربما يودع الجميع ليردد سرًا او علنًا من غير تردد (باي باي) لينطلق غالباً الى خارج العراق الى غير رجعة !!
أ. د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
قوة الدينار…متى تأخذ العملة العراقية مكانتها السابقة؟
في بداية عقد الخمسينات من القرن الماضي وعندما كنا طلاباً في المدرسة الابتدائية كان مدير مدرستنا يجيد الغناء الريفي اجادة تامة، ولطالما تجمعنا بعد الدوام او مساء لسماع غنائه الريفي حيث كان يقيم في المدرسة ذاتها، ولكنه في الصباح وعادة في يوم الخميس ينسى اناشيد تحية العلم او نحن فداء للملك، ويطلب من الطالب رضوان ان يغني ، لان ذلك الطالب على الرغم من صغر سنه لكنه كان ذا صوت شجي وحنجرة قوية وكان يجيد الغناء الريفي ايضاً، ولكن رضوان كان عادة يفضل ترديد الاغنية التي كان مطلعها الاتي ( اسمع اكش دينار ما شافته عيوني اسال الصرافين بلكن يدلوني) وقد ذكرتني كثرة التصريحات حول قوة الدينار بتلك المدرسة وذلك الطالب الذي كانت اغنيته تدل حقيقة على قوة الدينار الاقتصادية وفاعليته الشرائية على الرغم من ضعف الاقتصاد العراقي وعدم تطوره في تلك السنين، ولكن عملية اصداره وضمان قوته الحقيقية كانت دقيقة وصحيحة جداً ولا غرابة في ذلك لان وزراء المالية ومسؤولي البنك المركزي كانوا ذوي كفاءة عالية ومراقبة قوته محط اهتمامهم وسبب قوته الدائمة. في الستينات من القرن الماضي، كان سعر الدينار منخفضاً لحد ما في لبنان بسبب تهريبه لاغراض السياحة غالباً، وكان ذلك مثار اهتمام المسؤولين في مصرف الرافدين وتقرر اجراء دراسة ميدانية عن اسباب ذلك الهبوط واوعز الى السفارة العراقية لشراء جميع النقد العراقي الموجود فيه ولم يتجاوز ذلك المليون دينار بحسب ما ذكر لي المسؤول عن تلك العملية . وفي سنة 1961 اشيع عن وجود ازمة بين رئيس الوزراء ومحافظ البنك المركزي، وكان رئيس الوزراء قد طلب من البنك اصدار عملة عراقية من دون رصيد، وقد استقال من جراء ذلك محافظ البنك وتراجع رئيس الوزراء (عبد الكريم قاسم) عن طلبه هذا بعدما اقتنع بخطأ هذا الإجراء بفضل اصرار المحافظ، (هذا ما اشيع في وقته والله اعلم). استمرت قوة الدينار العراقي طيلة سنوات الستينات والسبعينات على حاله مساوياً 3,3333 دولار ومن ثم تم تعديل سعره ليكون 3,2 دولار، وهكذا كان سعر الدينار العراقي بفضل توافر العملات الصعبة وفي مقدمتها الدولار الامريكي الذي كانت تدفع به اقيام النفط المصدر بهذه العملة ، واستمرت قوة الدينار العراقي حتى بداية الثمانينات من القرن السابق وكان الفضل في ذلك دائماً هو توافر النقد الاجنبي مقابل التصدير النفطي بالدرجة الاساس وليس تصدير المنتجات العراقية او عوائد من انشطة اقتصادية مختلفة، وهذا الاقتصاد الاحادي المصدر كان على الرغم من كل ما حققه من ايجابيات في قوة الاقتصاد العراقي ونقده كان دائما مصدر خطر وضعف لهذا الاقتصاد ، فنسف انبوب النفط العراقي المار في سوريا سنة 1956 كان له اثر سلبي على الاقتصاد العراقي وفي سنة 1967 كان لاحداث حرب حزيران اثر سلبي على الاقتصاد العراقي ، في حين كان لحرب تشرين سنة 1973 اثر ايجابي عليه بسبب اجراءات التأميم وزيادة الاسعار، مما حقق وفرا هائلاً من الايرادات النفطية كان لها اكبر الاثر في قوة الاقتصاد العراقي وتناميه بخطط انفجارية كما سميت في ذلك الحين، ولكن وفرة الاموال وسرعة انفاقها لاسباب شتى منها صحيحة ومنطقية كتحقيق تنمية اقتصادية سريعة الا انه في الوقت نفسه ادى ذلك النهج الى الاسراف والتبذير في الاموال العامة وبدء اعمال التواطؤ والاستغلال وغيرها ومن ثم الانفاق العسكري الذي زادت الحرب العراقية –الايرانية الطين بلة ولم تمض سنوات قليلة حتى استنفذت جميع الاحتياطات وجميع الايرادات النفطية وبدأت اعمال الاقتراض والاصدار النقدي من دون غطاء ذهبي او ارصدة مناسبة من عملات صعبة اجنبية كالدولار او الباون الاسترليني وغيرها من قائمة العملات الاجنبية الصعبة الذي كان يصدرها البنك المركزي العراقي. ان ما افرزته الحرب العراقية – الايرانية واعوامها الثمانية المدمرة وما لحق بالعراق من ظروف كارثية بسبب اجتياح العراق لجارته وشقيقته الكويت والحصار والأسوأ من ذلك في تاريخ الانسانية منذ الازل وحتى الان فضلاً على ما ولدته تلك الظروف المأساوية في التدهور المستمر في سعر الدينار العراقي زادته ضغطاً الاختلاسات والتواطؤات والرشاوي وغيرها من ظواهر الفساد الاداري وجعل سعر الدينار يضعف عشرة ألاف مرة تجاه الدولار الامريكي وغيرها من العملات الصعبة ليكون مستوى التضخم الاقتصادي في سنة 1995 عن سنة 1982 على سبيل المثال بنسبة مليون بالمئة (1000000%) وهي باعتقادي اعلى نسبة لاي تضخم اقتصادي شهدته الانسانية وحتى لا نطيل الكلام في ما هو شاخص للعيان منذ انهيار النظام السابق وحتى الان فان البنك المركزي وبفضل ادارته الكفؤة الجديدة استطاع تثبيت سعر الدينار العراقي تجاه الدولار الامريكي او غيره من العملات الصعبة منذ اكثر من سنة حتى الان كان له ايجابيات اقتصادية كثيرة وفي مقدمتها استقرار السوق العراقية في التعاملات النقدية وثبات مناسب لجميع السلع الاستثمارية والاستهلاكية وحقق وضوحاً في الانشطة الاستثمارية وحدودها وجميع انواع الاستثمارات وغيرها. نعود الان الى نقطة مهمة اشرت لها منذ بداية خاطرتي هذه هو كيف نعيد القوة الشرائية للدينار العراقي التي تغنى بها رضوان وكان حصوله على الدينار اشبه بالخيال. اقول ان اهم الخطوات التي يمكن ان تعزز الدينار العراقي وقوته الاقتصادية والشرائية هي الاتي: اولاً: تنشيط الاقتصاد العراقي . العمل على تنشيط الاقتصاد العراقي وفي جميع القطاعات الاقتصادية انتاجية او خدمية، وعلى ان يكون ذلك الانفاق متوازناً ومتكافئا مع جميع القطاعات لتسير جميعها متوازية متقاربة في عملها وليس متفرقة ومتباعدة وكأنها خيول السباق احدها في مقدمته واخر في بدايته. ثانياً: استغلال المنح والمساعدات. العمل على استغلال جميع المنح والمساعدات بأعلى كفاية ممكنة وعدم السماح (بأقصى طاقة ممكنة) باستغلالها والانتفاع منها من قبل جهات عدة وبطرق ملتوية لتحقيق منافع خاصة على حساب منافع ومصالح الشعب العراقي. ثالثاً: اعادة الاموال المسروقة والمهربة. العمل على اعادة جميع الاموال العامة المسروقة والمهربة والمهدورة بأقصى كفاية ممكنة وعدم السماح بسرقة واختلاس المال العام بأية صورة ولأي سبب ومن دون استمرار النزف المالي المدمر للاقتصاد العراقي وعلى ان تشمل اعمال مكافحة الفساد المالي لكل مقترفيه مهما كانت وظائفهم أو مراكزهم او انتماءاهم أو جنسايتهم وبصورة محكمة بفضل اناطة امور الدولة واقتصادها الى اناس اكفاء تكون المناصب والوظائف بهم لاناس في المكان المناسب لما يتمتعون به من اخلاق حميدة ونزاهة عالية وكفاية علمية وخبرة وعملية. رابعاً: اعادة تسعير الدينار العراقي. ان يعيد البنك المركزي تسعير الدينار العراقي بما يتوافق مع الوضع الاقتصادي وتقدمه بصورة متأنية ودقيقة ووضع اهداف استراتيجية لذلك الغرض، كأن يضع البنك المركزي وصول سعر الصرف للدولار الامريكي تجاه الدينار العراقي الى 1000 دينار خلال ثلاث سنوات والى 500 دينار خلال خمس سنوات وهكذا وهذا مرتبط بتحقيق ما ذكرته في الفقرات الثلاث الاولى المذكورة انفاً. خامساً: سحب الفائض النقدي. لم تكن هناك ضرورة لاصدار العملات المعدنية ولم يتم تداولها بين الناس واقترح على البنك سحبها من التداول ، الا ان قيام البنك المركزي ببيع قطع نقدية ذهبية مصاغة لمناسبات معينة على الجمهور بواسطة فروع البنك التجارية يمكن ان يحقق سحب كبير للفائض النقدي لدى جزء من افراد الشعب مما يحد من تداوله ويخفض من معدل التضخم في القطر الذي لا يزال في العراق. ساساً: استخدام الوسائل والأساليب المناسبة التي تعزز من قيمة الدينار العراقي. ولا شك ان هناك الكثير من الوسائل والاساليب التي يمكن ان تلجأ اليها وزارة المالية والبنك المركزي لتحقيق هذا الهدف. وفي ختام مقالتي هذه يجب ان لا ننسى ان قوة الدينار العراقي الاقتصادية وبالتالي الشرائية مرتبطة أولاً وأخيراً بقوة الاقتصاد العراقي وارتفاع مستوى نمو وتطوره بالدرجة الأساس.
أ. د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
تعمير النفوس قبل تعمير الشوارع والجسور
يحير المرء المتتبع لمسيرة الخطط الاقتصادية الخمسية أو المناهج الاستثمارية السنوية منذ انطلاق حملة الأعمار في بداية عقد الخمسينيات من القرن الماضي وحتى السنة الحالية في أسباب تضمن تلك الخطط والمناهج السنوية لمئات الملايين ومن ثم عشرات المليارات من الدنانير المعادلة لملايين ومليارات الدولارات المعادلة لالاف التريولنات من الدنانير (بعد أن خر الدينار صريعاً امام الدولار في سنوات الحصار) في الانفاق على إنشاء الطرق والجسور والمباني والمنشآت المدنية او العسكرية، وتضمنت تلك الخطط الكثير من الانفاق على المشاريع الصناعية والانتاجية ومن ثم التهم التصنيع العسكري مبالغ هائلة لما خصص في تلك الخطط والمناهج لانشاء المصانع العسكرية او شراء السلاح وان كانت النظريات الاقتصادية الاشتراكية منها او الرأسمالية جميعاً تركزّ على أهمية إقامة البنى التحتية للاقتصاد الوطني في اعمال التنمية ومن ثم التوجه نحو بناء ما يتطلب للخدمات او مستلزمات التنمية والرفاه الاجتماعي . ستون عاماً تقريبا ومنظرونا ومخططونا لا توجد لدى أغلبهم غير هذه الافكار والنظريات يعيدونها المرة تلو المرة، فأن أقامت الدول الاشتراكية الملتزمة التزاماً صارماً بهذه النظريات بإعادة ترميم البنى التحتية في عشرة أو عشرين عاماً، وإن حدّثت الدول الرأسمالية أبنيتها التحتية بعد الحرب العالمية الثانية طيلة خمس سنوات وإن قامت الدول الخليجية النفطية المجاورة بوضع أساس اقتصادي جديد في مدة لم تتجاوز عشرة أعوام فالعراق بقي يراوح في خطواته وحده يبنيها ويدمرها المخربون من عراقيين وأمريكان لمدة ستين عاماً حتى التهمت كل الموارد التي خصصت دون جدوى والان نقف مرة رابعة او خامسة امام مشاريع هدفها تأمين البنى التحتية لاقتصاد العراق ولكن متى تنجز هذه المشاريع التي لا يعلم بها الا الله؟! وزاد الأمر سوءاً – ومع الاعتذار لاخواني اساتذة الاقتصاد بما سأطرحه من آراء ارجو منهم مناقشتها دون انفعال- إننا في هذه السنوات بأمس الحاجة إلى تعمير النفوس وليس تعمير الجسور والطرق والممرات ورصف الارصفة التي لا يسير عليها حتى الاطفال، وإن افترضنا أن أحداً من الاخوان سيقول إن هذه الاعمال لكل منها تخصيصاً معيناً لذلك لا يمكن التخطيط بصورة اخرى او خلافاً للفصول والابواب التي اعتادت اجهزة التخطيط والمال على العمل بها كل عام، أعود وأقول إن كل هذا صحيح ولكن يمكن أن يكون محط جدل ونقاش للوقوف على افضل الاساليب التي يمكن أن تغير الاحوال من دون التمسك بما قاله الاقتصادي الروسي أو الانكليزي أو الأمريكي، ونعود الى ما وضعه الفكر الاقتصادي للاسلام الذي اكد على اشباع الحاجات واطعام الجياع والفقراء وإكساء الناس وتوفير أهم الخدمات لحفظ كرامة الانسان وفي مقدمتها الامان، والغذاء، والكساء وسد حاجات الفقير والغريب والاسير والايتام والغرباء، ومن ثم الاهتمام التام بالصحة والتربية والتعليم والثقافة والشؤون الاجتماعية وغيرها من الخدمات التي ملت الناس بالنداء والرجاء لأعطائها الاولوية ولكن الامر لم يلق جل الاهتمام واذكر منها الماء الصالح للشرب الخالي من القاذورات والترسبات والميكروبات ثم الكهرباء ثم البانزين والكاز وإذا تساءلنا عن كيف ينبغي ان يكون توزيع الاموال وكيف يفضل أن نعدّ موازنة الاستهلاك والاستثمار لمدة متوسطة وقصيرة الأجلين فأرى من الافضل أن يكون الآتي :- اولاً / دراسة علمية واقتصادية شاملة ودقيقة لما يتطلب تخصيصه من اموال لما يحقق توفير الابنية والمنشآت لجميع القطاعات الاقتصادية الخدمية في البلاد سواء ما ينشأ منها أم يصان ( صيانة كبيرة ) لتأمين تنفيذ هذه النشاطات بأفضل مستوى من الاداء . ثانياً / وهنا ينبغي ان يدرس ما يتطلب ان يعطي الاولوية والسرعة في التنفيذ بحسب الاهمية والضرورة وهي كالآتي :-
ثالثاً / دراسة علمية واقتصادية دقيقة للاستثمارات في القطاعات الاقتصادية الانتاجية . إن الاستثمارات في القطاعات الاقتصادية الانتاجية ينبغي أن تعدّ بصورة دقيقة جداً متناسبة والحاجات الاقتصادية الانتاجية المهمة والتي ينبغي ان توضع بكل دقة واهتمام .
يقول البروفسور البولوني غورسكي- وهو من أشهر اساتذة الاقتصاد الرأسمالي في دول اوربا الاشتراكية في سنوات السبعينات- في كتابه (الاقتصاد السياسي الرأسمالي) : إن طريق التنمية الاقتصادية الذي سلكته الدول الاشتراكية لتحقيق البنى التحتية والارتكازية بوساطة الخطط الخمسية ومن ثم لتحقيق التراكم الرأسمالي للدولة وبهدف تحقيق التنمية الاقتصادية الاشتراكية لم يكن لديها غير هذا السبيل لكون أغلبها كانت دولاً فقيرة وليست رأسمالية وقد حقق ذلك نجاحا كبيرا وواضحا، لكن هذه الدول ركزت في خططها واعطت الاولوية للقطاعات الاقتصادية الانتاجية على حساب القطاعات الاقتصادية الخدمية، أي كانت الخدمات لم تحظ بما كان يجب من الاهتمام فكان ذلك خطأ واضح البيان، أما الدول الرأسمالية فقد كانت اقل حاجة للبناء التحتاني وكان عليها إعمار ما خربته الحرب، فكانت النظريات الكنترية التدخلية ( والتي هي اشتراكية التوجه باسلوب اخر) ومن ثم المساعدات الاميركية بعد الحرب قد ساعد هذه الدول في سرعة اعادة الاعمار واعادة الامور بأفضل مما كان وكان بإمكانها الموازنة في الانفاق عبر موازنة الدولة بين ما يجب من انفاق على القطاعات الاقتصادية للخدمات، وكان هناك اتفاق على قطاعات الاقتصاد الانتاجية وإن كان في هذه الدول من يطلق العنان للقطاع الخاص. ويضيف البروفسور غورسكي قائلاً : لكن الامر يختلف كثيراً في الدول التي تتوافر فيها الاموال ويمكنها بسهولة الانفاق ومنها الدول النفطية الغزيرة الاموال ولاسيما دول الخليج التي منها العراق فبإمكانها أن تحقق النمو الاقتصادي والاجتماعي بصورة متوازنة وسريعة بين جميع القطاعات الاقتصادية الخدمية منها او الانتاجية ، لانه لا حاجة للانتظار او بذل الجهود لتحقيق التراكم في الاموال، وقد حققت دول الخليج ما اقترحه او افترضه البروفسور غورسكي لانها أيقنت بنصيحة غيره أيضا من اقتصاديين انكليز واميركان، ولكن لوعدنا الى ما توقعه غورسكي حين قال، وإن سلكت أغلب الدول النفطية الخليجية الاسلوب الرأسمالي لتحقيق الرخاء فإنها قادرة في مدة قصيرة من الزمن على تحقيق هذه الاهداف ويعود العامل الاول الاساس في ذلك إلى وفرة الاموال النفطية أما العامل الثاني فهو في قلة عدد السكان، أما العراق والجزائر البلدان العربيان الوافران في الثروات النفطية وغيرها الكثير من معادن وخيرات فضلاً عن توافر الايادي العاملة والخيرات مع عامل مهم آخر أنهما ينهجان نهجاً اشتراكيا في تخطيط الاقتصاد فإنهما يمكن (كما أتوقع) خلال مدة قصيرة قادمة أن يكونا من الدول المتقدمة جاعلة التخلف في خبر كان ولكن مع الاسف ان ما حصل لهذين البلدين من تدمير وخراب ما لم يكن بالحسبان. هذا ما قاله غورسكي، اما ما كان يقوله علماء التنمية والاقتصاد في الدنمارك فهو يختلف عن هذا وذاك، إذ أنهم يرون أن التقدم الاقتصادي لا يمكن أن يعد مؤشرا دقيقاً لرقي البلدان، لان الاموال التي لا تصرف على تنمية ورقي المجتمعات لا قيمة حضارية لمثل هذه الاموال بل أن قياس مستوى تقدم البلدان هو بمستوى ما ينفق من ثرواتها الاقتصادية على خدمات مجتمعات تلك البلدان. وكلما كان ذلك بنسبة عالية – كما وضحت في مقدمة مقالتي هذه أي الصحة والتربية والتعليم والثقافة والأمان- كان ذلك دليلاً على رقي حضارة هذه المجتمعات وتقدمها، من هذا كله اصبحت واثقاً بأن السياسة الاقتصادية والمالية التي ينبغي انتهاجها في العراق دائماً هي الهادفة وبصورة مستمرة الى تعمير النفوس قبل تعمير الشوارع والجسور.
أ. د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
ادارة الترهيب وادارة الترغيب
يعتقد البعض من اداريي وحداتنا الاقتصادية ان من مستلزمات نجاحه في ادارة الوحدة المسؤولة عنها ان يكون صارماً (او بالاحرى قاسيا) شديداً مع الافراد العاملين او المتعاملين في او مع وحدته متزمتاً في تطبيق القوانين والانظمة والتعليمات كما يحلو له تفسيرها دون ان يكون (او يسمح لمساعديه ومعاونيه) للاخذ بروح القوانين ومعانيها لا الفاظها ومبانيها، وان كان مهندس السكك الحديدية يتركون بعض الملمترات فاصلاً ما بين قضبانها لتوفير المرونة عند تمددها او تقلصها نجد مديرنا هذا لا يؤمن ولا يوفر أي مرونة في العمل الاقتصادي والاداري ، وان كانت الاوامر (او ما تعارف عليه بين الموظفين اخيراً بمصطلح –الهــج) هي نهجه الامثل، فأننا نادراً ما نجده قادراً على نهج الاسلوب الاقتصادي والاداري العلمي والفني الصحيح في ادارة وحدته الاقتصادية ورفع مستوى ادائها، وان حقق النجاح في بداية تسلمه المسؤولية فقد تنتهي فترة ادارته بنكسة ذلك لان جميع العاملين بمعيته ان اندفعوا في بداية الامر بالعمل بهمه ونشاط تخلصا من المسؤولية والمحاسبة والعقوبات الصارمة (وحتى الكلمات القاسية) وحقق ذلك تميزاً مؤقتاً في رفع مستوى الاداء او النجاح فأن ردوده وقتية قصيرة المدى، لان هذا الاسلوب في الادارة ان استمر طويلاً وابتعد كثيراً عن العلمية والموضوعية جعل اغلب العاملين نافرين متذمرين غير آبهين بأي عقوبة او تقريع لا بل العكس، لانهم عارفين ان مؤسستهم تدار بالترهيب. النموذج الاخر لاداريي الوحدات الاقتصادية هو الذي تخصص وعمل (او تدريب وخبر) في العلوم الاقتصادية والادارية والمالية والمحاسبية فضلاً عن اختصاصه الفني فاصبحت لديه قواعد واسس علمية وموضوعية يعتمدها في التعامل مع العاملين او المتعاملين معه اخذا بنظر الاعتبار اهمية استيعاب الامور بصورة متكاملة ، مطبقاً للقوانين والانظمة والتعليمات بمقاصدها ومعانيها لا نصوصها ومبانيها كلما كان ذلك صحيحاً ودقيقاً، حاثاً العاملين معه على العمل في سبيل المصلحة العامة بتعاون واخاء كالعائلة الواحدة فاهماً افكارهم واحوالهم الرسمية والخاصة دارساً لما يجول بنفوسهم منبهاً عن صغائر الهفوات مشاركاً لهم افراحهم واحزانهم فاسحاً المجال امامهم للتقدم العلمي والوظيفي كذلك الحال بالنسبة للمتعاملين الاخرين معه كاسباً ودهم واحترامهم ،حالاً مشاكلهم وقضاياهم بسهولة ويسر، فنجد وحدته الاقتصادية متميزة في الادارة والاداء، بفضل مثابرة العاملين معه مكثفين الجهود لانجاح الوحدة الاقتصادية لما فيه تحقيق المصلحة العامة وتألق مديرهم العام الذي يديرها بالترغيب.
أ. د. ماهر موسى العبيدي أكاديمي عراقي
الزراعة في العراق الى أين المسير وما هو المصير؟
في اواخر الاربعينات وحتى اواخر الخمسينات عندما كنت أعيش في منطقة ريفية زراعية كان أكثر من ترك أثراً طيباً وبهيجاً في نفسي خلال تلك الفترة هي المروج الخضراء والزرع الوفير بالحنطة والشعير وايام الحصاد الجميل اذ تتناثر في المزارع أكداس الطعام الوافر من غلة وحبوب وكأنها أكداس من الذهب ويوم الجمعة فهو يوم الوقفة يجلب الفلاحون قطعان الخرفان والابقار ومنتجاتها من أصواف ودهون واجبان اما الدجاج والبيض فيعرض بكثرة كثيرة اكثر من العجاج وكان سعر الدجاجة بدرهم والبيضة بفلسين . اسفاً على ذلك الزمان الوافر الخيرات الذي أشترى لنا فيه والدي بقرة يقال ان اصلها انكليزي كانت تدر الحليب سطلات نشرب ونأكل منها ما لذ وطاب ورغم فساد الاوضاع وأستغلال الاقطاع لفلاح ولكن قوة الاقطاع ومركزية الاداء كانت العامل الاساس في غزارة الانتاج . قامت ثورة تموز العظيمة وكانت المؤتمرات تحيط بها من كل صوب وفج فوضعت نصب عينها ان تتحاشى الهزيمة و ادركت ان الاقطاع هو رأس الحربة على الثورة فعملت جاهدة على تفتيت سلطته وقوته فأصدرت قانون الإصلاح الزراعي الذي استولت فيه على الاراضي وزرعت قطعاً صغيرة للفلاحين وعوائلهم الفقيرة وتمت العملية بصورة سريعة لكن ما حصل بعد ذاك ضعف الاداء وعوز الفلاح للمال ( المساعيد او السلف ) التي كان يحصل عليها سابقاً من الملاك وبدلاً من الاهتمام بكامل الارض الشاسعة أنصب الاهتمام على القطعة الضيقة وفي ظل وزارات دولة مباينة الاداء والكفاية ( وكأنها اشبه بخيول السباق احدها في المقدمة والاخر في المؤخرة ) هبط الانتاج وبدأ القيل والقال وخصوصاً عندما اختفى تمن العنبر ولحقه صابون ابو الهيل حتى ظهر على التلفاز سيادة الزعيم وطمأن المواطنين بأن الحكومة أتخذت خطوات لسد الفجوات ثم نزل التمن البسمتي ولم يكن طيب المذاق لونه اخضر لا طعم ولا رائحة ولكن سلم العراقيون امرهم لله اذ لم يكن هناك وافر من العنبر . في كلية التجارة والاقتصاد كانت هناك مجموعة من التدريسيين الشباب درسوا الاقتصاد وتعلموه في جامعات الغرب الرأسمالي وعلمونا في محاضراتهم علماً مفاده ان اسباب تخلفنا هو اننا نزرع ولا نصنع وما دمنا هكذا فلن يكون مقام وما علينا التحول من الزراعة الى الصناعة وقالوا انظروا الى الدول المتقدمة التي أبقتنا نزرع وهي تصنع فحققت رقي المقام وان كنا ننشده فما علينا الا ان نتحول الى بلدان تصنع ولا تزرع فيتحقق النمو ويزول التخلف ونصبح دولاً راقية وانطلت الخدعة علينا وعلى مسؤولينا وبدا الاهتمام بالصناعة واهملت الزراعة، فماذا حصل يا أخوان ؟ الذي حصل اننا لم نخض بهذا ولا ذاك فلم تتطور الصناعة وتدهورت الزراعة وبدأ الاعتماد على الاستيراد من الدول الراقية التي طورت الزراعة وقدمتها على الصناعة وفاض فيها الانتاج حتى كان يتلف ولا يباع لا بل اصبح وسيلة للمزاح في الهرجانات او السباحة في عصيرها وتتبرع وتصدر الفاسد منه فتصوروا اين وصل اليه الحال وما آل اليه المال . بعد 1968 كانت هناك حملات لأستزراع لم تسمن ولم تغني من جوع لا بل تراجع كل شئء الى الوراء وبدأت الطوابير كيلو وكيلو من خضرة او فاكهة حتى سهل الله علينا وأُمم النفط ونزل علينا المن والسلوى فكان من السهل الاستيراد وتوجهنا صوب كندا والامريكان نستورد القمح بالدولار فسهل على فلاحنا شراء الطحين المدعوم بدلاً من زراعة القمح لأن في ذلك اعباء وكلفة وغلاء واستمرت هذه السياسة في الزراعة تدعم الامريكان وندمر العراقيين ولو كان العكس كما أنتهجت حكومة نجد والحجاز لتحولت صحارى العراق الى مروج خضراء تغل من الحنطة والشعير الكثير الوفير بدلاً من استيراده وخسارتنا لمال غزير واستمرت هذه السياسة الخاطئة حتى وقع الفاس بالراس وبدأنا نتوسل بالفلاح ونرفع الاسعار ليزيد من الاسثمار ويوسع الاستزراع ولكن بعد فوات الاوان وضالة القدرات وضعف الامكانات . وفي الختام وهذا هو المرام اقول للزراعة في العراق الى اين المسير وما هو المصير ؟
أ.د. ماهر موسى العبيدي اكاديمي عراقي
|
||
الرئيسية |
السيرة الذاتية |
مقالات |
مؤلفات |
البوم الصور |
رسائلكم |
رثاء |
ط§طھطµظ„ ط¨ظ†ط§
جميع الحقوق محفوظة لموقع الاستاذ الدكتور ماهر العبيدي ©2009 |