اهلا بكم
اهلا بكم
بحث في الموقع

البعثات الدراسية بين الماضي والمستقبل

 

في مطلع سنة 1970 وما بعدها قمت بحكم المسؤولية الرسمية في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بجرد اضابير طلبة البعثات الدراسية خارج العراق وتدقيقها، منذ بدء العمل بتلك البعثات حتى تلك السنة كان الهدف من ذلك امرين الاول :- تطبيق العقود المبرمة معهم وما تقتضيه تلك العقود من عودتهم الى العراق والعمل بما حصلوا عليه إيفاء بالشروط المبرمة، والثاني :- التحقق من أنجازهم دراستهم من دون إبطاء لحاجة مؤسسات الدولة الماسة في ذلك الوقت الى خدماتهم، ومن ثم تطبيق العقد بحق المنجز دراسته ولم يعد الى القطر او الذي فشل فيها إذ يقتضي العقد إعادة المبالغ المنفقة وما صرفته دائرة البعثات وتسجيل تلك المبالغ المعادة ايراداً نهائياً للدولة لأن العراق كان في حينها يعيش أنكماشاً أقتصادياً خانقاً وحاجة للأموال كبيرة .

وعندما باشرنا بهذه الاعمال وقفت على حقائق ومعلومات مهمة كان أبرزها المستوى العالي جداً لهؤلاء المبعوثين سواء قبل البعثات عند اختيارهم لها في العراق أو من خلال متابعة المصير الدراسي لهم في الجامعات التي درسوا فيها الذي تشير اليه التقارير العلمية الصادرة عنهم في تلك الجامعات أو ماتشير اليه تقارير الاساتذة المشرفين عليهم وإن مستوياتهم العلمية وأداءهم العلمي والمهني كانة متميزاً جداً في العراق أو في خارجه ممن فضل البقاء والعمل هناك لأسباب شتى وحرم البلد من تخصصاتهم وخبراتهم وكان منهم المحق في بقائه ومنهم من لم يكن كذلك .

ومن الاسباب الرئيسية التي ادت الى فشل كثير من الطلبة المبعوثين وعدم عودتهم أن جزءاً كبيراً منهم كانوا صغار السن إذ أنهم من خريجي الدراسة الاعدادية ولم تكن في القطر جامعات بل كليات ومعاهد عدة فكان اندماجهم في الحياة الغربية سريعاً وتزوج الكثير منهم من بنات تلك الدول ومما زاد الامر سوءاً إن الملحقيات الثقافية لم تكن ذا كفاية عالية في أداء مهامها وإن كثيراً من العاملين كانوا ( حسب رأيي ) ليس بالمستوى المطلوب الذي يمكن أن يؤدوا واجبهم كما يرام يزاد على ذلك عدم كفاية بعض العاملين في مركز الوزارة المسؤولة عن البعثات والزمالات الدراسية ( وزارة التربية في ذلك الحين ) وكذلك قلة الرواتب والمخصصات الممنوحة للطلبة في أغلب الاقطار المبعوثين إليها إذ كانت لا تكفي لسد احتياجاتهم ساعد هذا الحال مع بيروقراطية تعامل أغلب الملحقيات الثقافية لهؤلاء المبعوثين وشعور معظمهم بعدم تمكنه من الحصول على الوظائف والرواتب الملائمة لعيشهم بالمستوى المناسب لشهادتهم العلمية وخبراتهم العملية وكذلك توقعهم _ وهم على حق _ بأنهم لن يجدوا في بلادهم الجامعات والمؤسسات التي تحتضنهم وتحقق لهم طموحهم بسبب التخلف الاقتصادي الذي كان يعيشه العراق كل ذلك ادى الى عزوف معظم المبعوثين عن العودة الى العراق والعمل فيه إيفاء بواجبهم الوطني أو بالعقود المبرمة معهم .

وعند نشوب الحرب الاسرائيلية العربية في حزيران عام 1967 وهزيمة العرب فيها بادرت الحكومة العراقية الى تحسين اوضاعها واستعداداتها العسكرية لمواجهة أسرائيل وذلك بإتخاذ عدد من الاجراءات كان منها إيقاف البعثات العلمية خارج القطر فأصيبت الحركة العلمية في العراق جراء ذلك بضعف كبير وحرم العراق من موارد بشرية مؤهلة تأهيلاً عالي المستوى، وهكذا فان اسرائيل التي هزمت العرب بفضل سلاح العلم نتراجع أمامها أكثر فأكثر بقطع الصلة بيننا وبين العلم وموارده .

أما ابان النظام السابق فقد توافرت الرغبة لديه لسد الحاجة من الموارد البشرية اللازمة لرفد الجامعات والمؤسسات الاقتصادية فأعيد برنامج البعثات العلمية وصدر نظام البعثات ذو الرقم 46 لسنة 1971 الذي تضمن مرونة عالية في آلية اختيار البعثات والتعامل معها مما ساعد في كفاية النظام هو التعليمات عدد ( 1 ) لسنة 1972 التي الحقت به وكان لي دور رئيس في إعدادها وهي تعنى بأمور المبعوثين وشؤونهم .

بدء برنامج البعثات هذا بداية علمية جيدة وخصص له الدعم المادي اللازم وكان انتقاء المبعوثين على وفق معايير مناسبة أيضاً وعندما اغرقت أموال النفط موازنة العراق و فاضت أصبح بإمكان الدولة التوسع في برنامج البعثات ومن ثم الزمالات والايفادات والمساعدات الدراسية مما وسع برنامج البعوث العلمية وعمق أختصاصه ومن ثم زيادة الانفاق على طالب البعثة او الزمالة لسد متطلباته الدراسية والمعاشية هو وعائلته إن كانت ترافقه ومع ذلك لم يسلم هذا البرنامج من مظاهر سلبية صاحبته أنعكاسات سيئة على مجمل أهدافه وكان أهم تلك المظاهر :-

اولاً / خضوع الكثير من البعثات والزمالات الدراسية للمحاباة والترشيح الحزبي وجعل الولاء للحزب أساساً للحصول على فرصة هذه البعثات مما ادى الى ترشيح اعداد كبيرة غير مؤهلة علمياً لهذه المهمة .

ثانياً / تهافت الكثير من الخريجين ذو المعدلات الضعيفة للحصول على البعثات لا لأهداف علمية وإنما لمغانم مادية أو أعتبارات اجتماعية .

ثالثاً / أضمحلال الرغبة في التحصيل العلمي للمبعوثين واقتصار الغاية على الرغبة في السفر والتمتع بالعيش في اجواء الدول الغربية الساحرة وهذا ما كان يعشعش في اذهان الكثير من الطلبة الشباب وربما وصل الامر الى ان السعي للحصول على بعثة او زمالة غايته مجاراة هذا الصديق او ذاك الجار .

إن هذا الذي اذكره إنما هو ملاحظات شخصية وليس فيها إتهام لأحد وقد يكون للآخرين رأي آخر في هذا الموضوع ونحن نحترم كل الآراء إذا ما بنيت على أسس موضوعية .

       أقـــول :-

على الرغم من كل تلك السلبيات فأن برنامج البعثات استمر حتى اواخر السبعينات وأوائل الثمانينات ولكنه كان يسير كالسلحفاة وكان السبب الرئيس في ذلك الحروب والازمات التي ادخلنا فيها ذلك النظام إلا ان برنامج البعثات شهد دفعة جديدة نحو الامام في اواسط الثمانينات ولكنه لم يستمر إلا بضعة اشهر ثم اوقف مرة اخرى وذلك لإنخفاض ( بل انهيار ) اسعار النفط في ذلك الوقت واستمرت الامور على هذا الحال من الرتابة حتى حصول الكارثة الكبرى بدخول قوات قائد المسيرة ( الى الوراء ) الكويت من دون مسوغ أو لأسباب تافهة وأستمر التوقف لبرنامج البعثات والزمالات بسبب الحصار إلا بما كان يتصدق به على العراق من دول الجوار أو من بعض الدول الاخرى مما لا يغني ولا يسمن من جوع العراق الى الاختصاصيين والخبراء مما دفع ذلك اللانظام الى التعويض عن ذلك بتطوير برامج الدراسات العليا في العراق الذي ذكرت تفاصيله في موضوع سابق .

هذا هو حال البعثات الدراسية في العراق الذي لم اجد له مكانة تؤهله ليكون جزءاً من عنوان هذا المقال فكل من كان يبعث إنما كان بفضل زمالات أتت من مساعدات هذه الدولة او تلك .

إن اطلاق برنامج البعثات الطموح الذي كانت بدايته ما اعلن عنه من بعثات وتزامن هذا البرنامج مع حملة التعيينات لأصحاب الشهادات العليا ( الماجستير والدكتوراه ) سيكون له بعون الله وتوفيقه أفضل النتائج العلمية والعملية والجامعية المؤثرة في مسيرة العراق وهو جدير بها فهو الموطن الاول للحضارة على ارضه المباركة نشأت العلوم والفنون والاداب وأرى من متممات هذا الموضوع أن اذكر بعض النقاط التي تعزز نجاح هذا البرنامج وهي باختصار :-

أولاً / أن يكون انتقاء الطلبة المرشحين للبعثات ممن هم بدرجات متميزة علماً واخلاقاً وانضباطاً من دون مجاملة او محاباة .

ثانياً / أن يكون الانفاق على المبعوثين بمستوى يناسب سد احتياجاتهم لكي لا تقف ضآلة الانفاق او التقتيير امام مواصلة المبعوث سعيه الحثيث للحصول على افضل النتائج وأن لا يضطره الحال الى البحث عن مصادر أخرى من الاموال بطرق لا تليق بطالب البعثة .

ثالثاً / أن تحظى الاختصاصات النادرة او التي يحتاجها البلد بمركز الصدارة في الاختيار او الترشيح وان يقل التركيز على الاختصاصات التي يمكن لجامعتنا أن ترفد البلد بها على أن لا نغفل أهمية تطوير هذه الاختصاصات داخل العراق والانفاق عليها بصورة مناسبة ولاسيما إن كلفها في العراق اقل بكثير من كلفها في البلدان الاخرى .

رابعاً / أن تقوم الملحقيات الثقافية بمسؤوليتها كاملة وبأعلى المستويات من الكفاية والنزاهة والحكمة وان يكون هدفها الرئيس خدمة المبعوثين وتأمين تحقيق الاهداف المرجوة من بعثاتهم لا ان يكون جمع المال والنزهة في بلاد الاغراب هدفاً لا يعلو عليه هدف .

 

… ومن الله التوفيق …

 

 أ. د. ماهر موسى العبيدي

أكاديمي عراقي

 

 

»

اكتب تعليقا