اهلا بكم
اهلا بكم
بحث في الموقع

فوك النخل فوك

 

لا يوجد أعز وأكرم مما ورد في قراننا العظيم من منزلة للنخلة ورطبها الخير إذ قال سبحانه وتعالى في سورة مريم{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً }أمَّا إذا قلبنا صفحات التاريخ وما كتب عن النخيل وأنواعه فهو كثير جداً ولكن أهم أنواعه ما ذكره الدوري وهو يزيد على ثلاثمائة في كتابه تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري، ولا ننسى أيضاً ما قاله عنها أبو العلاء المعري عند زيارته للعراق بأن ( أشرف الشجر النخيل) ومما ذكر عن فوائدها الغذائية، ولا أنسى أبداً تفوق النخيل على جميع أنواع المنتجات الغذائية الزراعية والحيوانية لأن النخيل وتمورها وفوائدها الغذائية والاقتصادية كان موضوع بحثي للتخرج في مرحلة الدراسة الأولية (البكالوريوس) في كلية الاقتصاد والتجارة سنة 1962 (كما كانت تسمى وقتذاك) لقد كانت الأرقام تجزم (وما زالت) ان كيلو التمر يحتوي على (1760 سعرة حرارية) فلذلك تراه متفوقاً بدرجة عالية على بقية المنتجات من بيض وحليب وسمك ودجاج وغيرها ، لذلك كان توفر النخيل  وزراعتها في العراق بكثرة مصدر غذاء جيداً جداً للعراقيين منذ قديم الأزمان.

وقبل ان أطيل عليك عزيزي القارئ هدفي من هذه المقالة هو أني وددت أن أشير قبل ذلك إلى المرحومين كاتب الأغاني جبوري النجار الذي كان يعمل نجاراً في عمادة الطلبة والأقسام الداخلية في جامعة بغداد الذي لطالما تحدث لي عن المرحوم ناظم الغزالي عند زياراته لي في رئاسة جامعة بغداد خلال الستينيات من القرن الماضي عن أخلاق ووفاء المطرب ناظم الغزالي ولعل سر تعلقي بالنخلة هو تمكني من تسلقها والأكل من ثمارها على الرغم من ارتفاعها وأنا طفل عمري الخمسه سنوات، وفي بداية الخمسينيات استأجر والدي لي بستاناً كاملاً في مدينة القاسم لأمارس هوايتي(بتسلق النخيل) لذلك لا استطيع إلاَّ أن أرد على سؤال الأهل والأصدقاء عندما يسألون عن الأحوال بقولي( الحمد لله فوك النخل فوك).

واغنية فوك النخل فوك التي ما زالت شهيرة تسمع سواء بتسجيلات أغاني ناظم الغزالي الإذاعية أو التلفزيونية أو بأصوات غيره من المطربين العراقيين أو العرب وما زالت شائعة  في جميع أنحاء الدول العربية وليس العراق فقط وأحياناً تغنيها فرق أجنبية عندما تشارك أو تُضيف  بمهرجانات غنائية (كما ألاحظ أحيانا). وما زلت أرى أن من الضروري أشير لغرض التذكير كيف كانت بساتين النخيل في عراقنا الحبيب حتى أواخر السبعينيات زاهرة في خضرتها وسعفها وعثوق ثمارها التي كانت غزيرة لتوفر الملايين منها في عراقنا وكانت على مختلف أنواع تمورها الكثيرة مصدراً غذائياً رخيصاً وعظيم الفائدة نتفاخر به نحن أبناء العراق وما زلت أتذكر أننا دائماً كنا نقول ( نحن العراقيين لا نجوع ما دام لدينا التمر) .

حصل ما حصل خلال السنوات الثلاثين الماضية وإذ دمر الزرع والضرع ولم يسلم النخيل من أيادي الجلادين بالقطع أو القلع أو الحرق، وإني لا أنسى ما دمت حياً صورة ذلك الفلاح الحلي الذي كان جالساً على جذع نخلة مقلوعة سنة 1992 عندما سألته ألا يسمحوا لكم بإعادة زرع النخيل ، أجاب: وما الفائدة متى نأكل منها .

استوردت أقطار عربية كثيرة من العراق فسائل النخيل وتكاثرت وازدهرت بساتينهم وشوارعهم الرئيسة بأجمل الشجر (النخيل) وتكاثرت حتى أصبحت من منتجاتها الزراعية الرئيسة ولكننا فقدنا ثروتنا منها وخلت أغلب شوارعنا ولم تعد يزينها النخيل كم كانت سابقاً بعد أن شملها القطع والقلع (وزحف التعمير) وإن كنت تشاهد عزيزي القارئ أجمل وأرشق الشجر النخيل في شوارع ومنتزهات دول الجوار تجدها في شوارعنا إما عوجاء أو جرداء أو غبراء (مع الأسف) وإني لا أنكر جهود أمانة بغداد التي قامت بزرع مئات الآلاف منها ولكنها ما زالت فسائل صغاراً،  ولا أرى أن هناك ما يمنع من أن تضع أمانة العاصمة برنامجاً إستراتيجيا من ضمن مشاريعها الإستراتيجية بزراعة عشرات الملايين من شجر النخيل لتجمل بغداد وتقلل من حرارتها وتكون مصدر غذاء رخيصاً للعاملين عليها وغيرهم من أبناء بغداد من تمرها الرخيص ورقعة بغداد صالحة لزراعة الملايين فيها من هذا الشجر الشريف .

أعود إلى النخلة وأزمة الغذاء العالمي التي عمت في العالم في هذه السنة وكثر الحديث عنها وطمأنا الكثير من المسؤولين و غير المسؤولين بأننا في منأى منها وأنا أؤيدهم في ذلك، لأن المجاعة عصفت  بشعب العراق منذ فرض الحصار على شعبه المسكين وليس على حكومته الجائرة في أواخر سنة 1990 واستمر طويلاً فكانت البطاقة التموينية والتقتير في الأكل وانتظار مكرمات بكيلو رز ومثله طحين حتى انفرج الحال لسنة أو سنتين إلا أننا عدنا نرى ما ينقص من مفردات التموين وليس زيادة فيه لذلك نحن متعودين على مجاعات تدوم سنين وليس حين.

إني أرى أن وزارة الزراعة والأجهزة المتخصصة في مؤسسات الدولة كافة يمكن أن تضع برنامجاً إستراتيجيا لتحاشي أزمة الغذاء والطعام في السنوات المقبلة والحد من الاعتماد على النفط بوصفه مصدراً لتمويل استيراد الغذاء سواء كانت في البطاقة التموينية أم غيرها هو أن تؤمن مصدر غذاء غنياً بالفائدة رخيص الأسعار وهو أحد الحلول المهمة والمستقبلية التي يجب أن تضع الحكومة ممثلة بوزارة الزراعة اهتماماً كبيراً جداً بزراعة الملايين من أشجار النخيل ومتى ما تحقق هذا الأمل الذي يعد تحقيقه أمراً ليس بعسير  بل إنه حسب اعتقادي ممكن وسهل التحقيق سيجعل الشعب العراقي دائماً فوك النخل فوك ، وسأبقى أرد على التحية (الحمد لله فوك النخل فوك).

 

أ.د. ماهر موسى العبيدي

أكاديمي عراقي

 

 

»

اكتب تعليقا