اهلا بكم
اهلا بكم
بحث في الموقع

من مخلفات الماضي….موارد العراق تحولت الى التصنيع الحربي وليس للبناء

 

في اواخر اربعينات وبداية الخمسينات (كما اتذكر)، كان كل تغيير وزاري يحصل في العراق يحدث قلقاً كبيراً بين موظفي الدولة العراقية ان جاء في تشكيلته وزير معين للمالية، وذلك لما عرف عنه من اتباعه طرق في معالجة الازمات المالية، وفعلا تبدأ فوراً اجراءاته التقشفية من تخفيض لرواتب الموظفين أو عزل الفائض منهم وغيرها الكثير من الاجراءات التقشفية، وهذه الاجراءات واضحة للاقتصاديين وغيرهم فهي دليل وجود أزمة اقتصادية وعجز في الموازنةلا يمكن سده بالاقتراض لشحة الأموال وضعف الاقتصاد العراقي عموماً في ذلك الزمان، هذا وما زالت أتذكر إعلانات وزارة المالية في الأخبار المحلية عن طرح سندات اذونات الخزينة للحصول على أموال تيسيراً لأمورها المالية.

إن تدفق الأموال بعد إقرار اتفاقية مناصفة أرباح شركات النفط العراقية منذ اواخر الخمسينات وما بعدها والتي خصصت اغلبيتها لمشاريع البناء الأساس (التحتاني) وبالرغم من بعض الملاحظات البسيطة عليها إلا أنها حققت ثورة اقتصادية كبيرة ونقله في الوضع الاقتصادي والاجتماعي في العراق نحو الأفضل واستمر الحال على هذا النحو حتى بعد قيام العهد الجمهوري في سنة 1958 وما بعدها لسنة 1962، حيث لم تعان موازنة الدولة من أي عجز ولم تكن اتفاقيات القروض التي ابرمت مع الدول الاشتراكية هي للحاجة للأموال بل كانت للحاجة لاقامة قطاع صناعي يكمل النمو في القطاعات الاقتصادية الاخرى ويسد الحاجة للمنتجات الصناعية التي يحتاجها العراق بإنتاجها وطنياً بدلاً من استيرادها اجنبياً. هذا وكانت سياسة الانفاق الاستثماري الواسعة التي كان يتوق لتنفيذها رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم في ذلك الحين سبباً لشحة الأموال اللازمة للاستمرار في هذه السياسة، وكانت في اخر سنة من سنوات حكمه مؤشرات لازمة مالية لم تظهر ولم تعلن تفاصيلها حتى الوقت الحاضر.

اما في السنوات منذ 1964 وحتى 1968 وهي ما تعرف بتسميتها بالمرحلة العارفية فكانت مرحلة انكماش اقتصادي واضحة وقلة في الانفاق الاستثماري أو يكاد، حيث لم يكن هناك ما يميز تلك المرحلة من انجازات اقتصادية مهمة، سوى اعدادها كخطة اقتصادية خمسية متميزة علمية بفضل كفاءة من الوزير الذي اشرف على اعدادها وان لم يوفق في تنفيذها.

اما في بداية عهد تسلم حزب البعث مقاليد الحكم في العراق منذ سنة1968، فقد استمر الاتجاه نحو التقشف في الانفاق لعام عموماً وتوجيه المبالغ المخصصة للانفاق الاستثماري الصناعي بالدرجة الأساس، وكذلك تنفيذ الاتفاقيات الاقتصادية (والتي كانوا هم السبب الرئيس في تعذر تنفيذها) لما تضمنته من مشاريع اقتصادية صناعية هادفة وفعلاً تحقق نجاح كبير في ذلك الحين وبالرغم من هذا الوضع المالي الانكماشي والاجراءات الكثيرة التي اتخذت لايجاد مصادر للتمويل (كالبدل النقدي، وتحديد رواتب الاناث لمدة سنة براتب جندي مكلف، والادخار الاجباري وشمول المعلمين بالبدل النقدي وغيرها) الا اننا لم نسمع (كما اتذكر) بلجوء الدولة الى قروض داخلية كبيرة أو اللجوء إلى دول اخرى للاقتراض، لا بل استمعنا مرارا لرئيس النظام السابق استهزاءه لمبلغ المساعدة الذي عرضته احدى الدول الخليجية على العراق) وفضلاً على تلك الظروف المالية الصعبة سمعنا وقرأنا خبر تكريم محافظ البنك المركزي العراقي في ذلك الحين كفايته تسديد جميع القروض التي في ذمة الدولة العراقية والتي لم تعرف تفاصيلها او حجمها ولا غرابة في ذلك فالمرحوم الدكتور فوزي القيسي استاذنا في مادة النظرية النقدية كان عالماً اقتصادياً فذاً في عمله في كلية الادارة والاقتصاد /جامعة بغداد وكان رجلاً مناسباً في مكان مناسب في المناصب الاقتصادية التي اسندت إليه ومنها مدير عام لمصرف الرافدين ومحافظ للبنك المركزي ووزير للمالية لاحقاً.

ان الثروة التي التي جلبها تأميم النفط العراقي وارتفاع اسعاره اضعافاً في اوائل السبعينات وجهت في بداية تراكمها توجيهاً منسباً وأحدثت ثورة تنموية سموها انفجارية صاحبها كذلك انفاق كبير على التسليح وصناعته، عموماً كانت هذه المرحلة التنموية التي حققتها الفوائض المالية ايجابياتها لكثيرة وسلبياتها العديدة ولكن هذا الامر ليس موضوع هذه الخاطرة، ولكن اعود الى صلب القضية وهي القروض المالية في الدولة العراقية عند نشوب الحرب العراقية الايرانية كانت الفوائض النقدية العراقية في المصارف الاجنبية بحدود 70 (سبعين مليار ولار) ( حسب تقديري) وكان العراق رابع اغنى بلد في العالم بالنسبة لتلك الفوائض كيف دخلنا الحرب ولماذا ولمصلحة من اتركها جانباً لاقول حال دخولنا الحرب رفعت القيادة العراقية عموماً في تلك المدة (معتمدة على تلك الفوائض) شعار حرب وتنمية واحيلت الكثير من المشاريع الى شركات اجنبية كثيرة افادت كثيرا من ذلك الشعار ومن قانون المشاريع الكبرى الذي سهل عليها كل شيء وأعطاها كل الامتيازات التي لم تحصل عليها الشركات أو المقاول العراقي بشيء كيف رفع هذا الشعار ولمصلحة من وماذا حقق الله أعلم.

أن شعار تنمية وحرب حقق تنفيذ بعض المشاريع ومشاريع كبرى منها حقا ولكنه جاء خلافاً للقوانين والأعراف الاقتصادية في الظروف الحربية التي تحتم الترشيد والعقلانية في الانفاق وتوجيهية الوجهة الاقتصادية الفعالة وليس صرف المليارات للتأكيد بأن عجلة التنمية لا توقفها تلك الحرب ، ولم تمض سنة ونصف  السنة واذا بنا امام شعار ترشيد الانفاق والذي استمر لسنوات عدة.

شهد الانفاق الحكومي عموماً منذ النصف الثاني من الثمانينات منعطفاً كبيراً وخطيراً حذرنا منه كثيراً وهو الشراء من الشركات الاجنبية بالدفع الأجل وكان هذا التوجه بداية لكارثة اقتصادية كبيرة، حيث اندفعت المؤسسات لحكومية بهذا الاتجاه لسد احتياجاتها الكثيرة حينذاك للاستيراد على وفق هذا الباب الذي فتح لها من قبل الشركات الاجنبية على مصراعيه لتوريدها بالسلع البائرة والمتكدسة لديها وباسعار لا رقابة ولا دليل على صحتها أو افضليتها ولفائدة سنوية قدرها 5% ثم الفائدة 10% وعندما حدد سعر الفائدة بما لا يتجاوز 10% (كما اتذكر) سارعت هذه الشركات الى رفع الاسعار حتى لا تفوت الفرصة في الحصول على العقود التي يسيل لها اللعاب وتبتز الاموال ببضائع يمكن أن أقول إنها كان يمكن الحصول عليها بأبخس الأثمان وليس أغلاها.

وهكذا بدأت تتراكم الديون على العراق بفضل منهج الشراء بالدفع الاجل الذي كان جله للمؤسسات التي يشرف عليها رئيس هيئة التصنيع العسكري، ماذا حققت للاقتصاد العراقي وماذا أفادت استطيع الجزم انها لم تحقق الهدف منها الا بنسبة ضئيلة ولكن مبلغها ارتفع حتى وصل اى (15) خمسة عشر مليارا (حسب المعلومات التي حصلت عليها من هناك) وكانت هي من اسباب منزلق الدخول الى الكويت وما جره من ويلات تضاف الى ويلات الحرب العراقية الايرانية وخسائر هائلة من الاموال وتجديد كل شيء في الكويت على حساب العراق وشعب العراق بطرق وقوائم اجزم ان بعضاً منها حق واغلبها باطل ساهمت (حسب علمي) شركات المحاسبة الامريكية المتخصصة بالتزوير وليس بالتدقيق في ترتيبه وكانت مبالغ لتعويضات مئات المليارات من الدولارات .

ان توجه النظام نحو الاقتراض لاي شيء وبأي ثمن خلال مدة الحصار الذي جلب للعراق كل العار والشنأر ادى الى تراكم القروض والديون المؤجلة حتى الان (اذا ما اخذنا التعويضات بالحسبان) تتجاوز الخمس مئة مليار دولار (حسب تقديري) ونترك اثر ومبالغ تعويضات الحرب الايرانية العراقية جانباً في الوقت الحاضر.

ان اثر تراكم الديون التي اغلبها غير مشروعة ولم تنفق لخدمة الاقتصاد العراقي وشعبه والتي خطط لها جيداً لتدمير الاقتصاد العراقي وركائزه تتطلب منا ان نحقق في الآتي:-

أولاً: التدقيق في مشروعية هذه القروض ومدى كفاية وصحة توريدها واستغلالها.

ثانياً: متابعة المستفيدين منها ومحاسبتهم على ما اخذوه واستعادة الاموال التي سرقوها لخزينة الدولة.

ثالثاً: اعادة النظر في حقيقة التعويضات التي تطالب بها دول الخليج للعراق ومدى صحتها ومصداقيتها.

رابعاً: استعادة جميع الاموال المهربة أو المختلسة من قبل جميع الجهات التي مارستها داخلية أو خارجية حكومية أو خاصة عراقية أو أجنبية.

خامساً: اسقاط اكبر كمية من ارصدة الديون للدول التي تسعى لاقامة علاقات اقتصادية مثمرة وبناءة مع العراق لما فيه خير للبلدين. 

 

 

أ. د. ماهر موسى العبيدي

أكاديمي عراقي

 

                                 

»

اكتب تعليقا